فصل: كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ الْكَفَالَةِ:

الْكَفَالَةُ: هِيَ الضَّمُّ لُغَةً، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ثُمَّ قِيلَ: هِيَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْكَفَالَةِ:
أَوْرَدَ الْكَفَالَةَ عَقِيبَ الْبُيُوعِ لِأَنَّهَا غَالِبًا يَكُونُ تَحَقُّقُهَا فِي الْوُجُودِ عَقِيبَ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَطْمَئِنُّ الْبَائِعُ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ بِالثَّمَنِ، أَوْ لَا يَطْمَئِنُّ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فِي الْبَيْعِ وَذَلِكَ فِي السَّلَمِ، فَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُهَا فِي الْوُجُودِ غَالِبًا بَعْدَهَا أَوْرَدَهَا فِي التَّعْلِيمِ بَعْدَهَا، وَلَهَا مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِالصَّرْفِ وَهِيَ أَنَّهَا تَصِيرُ بِالْآخِرَةِ مُعَاوَضَةً عَمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْأَثْمَانِ وَذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، ثُمَّ لَزِمَ تَقْدِيمُ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ مِنْ أَبْوَابِ الْبَيْعِ السَّابِقِ عَلَى الْكَفَالَةِ فَلَزِمَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَهُ.
وَمَحَاسِنُ الْكَفَالَةِ جَلِيلَةٌ وَهِيَ: تَفْرِيجُ كَرْبِ الطَّالِبِ الْخَائِفِ عَلَى مَالِهِ، وَالْمَطْلُوبِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ كُفِيَا مُؤْنَةَ مَا أَهَمَّهُمَا وَقَرَّ جَأْشُهُمَا وَذَلِكَ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْعَالِيَةِ حَتَّى امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا حَيْثُ قَال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} فِي قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَانَ عَلَى مَرْيَمَ، إذْ جَعَلَ لَهَا مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهَا وَيَقُومُ بِهَا بِأَنْ أَتَاحَ لَهَا ذَلِكَ، وَسَمَّى نَبِيًّا بِذِي الْكِفْلِ لَمَّا كَفَلَ جَمَاعَةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِمَلِكٍ أَرَادَ قَتْلَهُمْ.
وَسَبَبُ وُجُودِهَا تَضْيِيقُ الطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ قَصْدِ الْخَارِجِ رَفْعَهُ عَنْهُ إمَّا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إزَالَةً لِلْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِمَّنْ يَهُمُّهُ مَا أَهَمَّهُ.
وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ وَالضَّرَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَدَلِيلُ وُقُوعِ شَرْعِيَّتِهَا قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَالْإِجْمَاعُ.
وَشَرْطُهَا فِي الْكَفِيلِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، فَلَا كَفَالَةَ مِنْ صَبِيٍّ وَلَا عَبْدٍ مَحْجُورٍ وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا؛ فَلَا كَفَالَةَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ دَيْنًا صَحِيحًا إذْ لَا يَلْزَمُ دَيْنٌ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَلُزُومُ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِيَصِلَ الْعَبْدُ إلَى الْعِتْقِ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَأَمَّا مَفْهُومُهَا (الْكَفَالَةُ) لُغَةً فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: الضَّمُّ سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَلِّقُهُ عَيْنًا أَوْ مَعْنًى.
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: تَرْكِيبُهُ دَالٌّ عَلَى الضَّمِّ وَالتَّضْمِينِ، وَمِنْهُ كِفْلُ الْبَعِيرِ كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِهِ كَالْحَوِيَّةِ يُرْكَبُ عَلَيْهِ، وَكِفْلُ الشَّيْطَانِ مَرْكَبُهُ.
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ قولهِ (ثُمَّ قِيلَ: هِيَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) فَلَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ؛ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي الْمَبْسُوطِ أَحَدَ الْقوليْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمَا يُخَالُ مِنْ لُزُومِ صَيْرُورَةِ الْأَلْفِ الدَّيْنِ الْوَاحِدِ أَلْفَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ حَقِّ الطَّالِبِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ وَإِنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَالِاسْتِيفَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ.
فَإِنَّ كُلًّا ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ وَلَيْسَ حَقُّ الْمَالِكِ إلَّا فِي قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا، وَاخْتِيَارُهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْآخَرِ، فَكَذَا هُنَا يُرِيدُ بِاخْتِيَارِهِ التَّضْمِينَ الْقَبْضَ مِنْهُ لَا مُجَرَّدَ حَقِيقَةِ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا وَبِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِلْكَفِيلِ صَحَّ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ مَعَ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ شَيْئًا يَصِحُّ مَعَ أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَصِحُّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ اعْتِبَارٌ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي ذِمَّتَيْنِ، إنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي عَيْنٍ ثَبَتَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ فِي ظَرْفَيْنِ حَقِيقِيَّيْنِ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي مُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ لَا الدَّيْنِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِي الذِّمَّتَيْنِ وَإِنْ أَمْكَنَ شَرْعًا لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَّا بِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ لِأَنَّ التَّوَثُّقَ يَحْصُلُ بِالْمُطَالَبَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ اعْتِبَارِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَالدَّيْنِ فَإِنَّا جَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ الدَّيْنَيْنِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ وَقَبْلَهُ لَا ضَرُورَةَ فَلَا دَاعِيَ إلَى ذَلِكَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ فِعْلٌ يَقْتَضِي أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إذْ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ الْوَجْهُ أَنْ تُطْلَقَ الْمُطَالَبَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ كَمَا تَكُونُ بِالدُّيُونِ تَكُونُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ هَلَكَ ضَمِنَ مِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَبِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا.
وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا، وَإِذَا هَلَكَتْ يَجِبُ تَسَلُّمُ قِيمَتِهَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ، وَالْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا وَهِيَ الْأَعْيَانُ الْوَاجِبَةُ التَّسْلِيمِ قَائِمَةٌ، وَعِنْدَ هَلَاكِهَا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مِثْلِهَا وَلَا قِيمَتِهَا وَهُوَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُضْمَنُ بِالثَّمَنِ وَكَالرَّهْنِ يُضْمَنُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ هَلَكَتْ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ قِيمَتُهَا.
وَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْوَاجِبَةُ التَّسْلِيمِ وَهِيَ أَمَانَةٌ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا وَمَتَى هَلَكَتْ لَا تَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ قِيمَتُهَا، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْغَيْرِ الْوَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا أَصْلًا.
وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِالْأَلْفَاظِ الْآتِيَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَبُو يُوسُفَ فِي قولهِ الْأَخِيرِ الْقَبُولَ رُكْنًا فَجَعَلَ الْكَفَالَةَ تَتِمُّ بِالْكَفِيلِ وَحْدَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقول لِلشَّافِعِيِّ.
وَاخْتَلَفُوا عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ؛ فَقِيلَ: إنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَحْدَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الطَّالِبِ أَوْ تَصِحُّ نَافِذًا وَلِلطَّالِبِ حَقُّ الرَّدِّ.
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ مَنْ يَقول بِالتَّوَقُّفِ يَقول لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ.
وَأَمَّا حُكْمُهَا فَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ أَوْ لَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يُطَالِبُهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْرٍ: يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْأَصِيلِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَنْظُومَةِ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ خِلَافُ مَا فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ أَصْحَابِهِ.
احْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ جِنَازَةً فَقَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ، فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا وَفَكَّ رِهَانَك كَمَا فَكَكْت رِهَانَ أَخِيك، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؟ فَقَالَ لِلنَّاسِ كَافَّةً» فَدَلَّ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ، وَلِلْعَامَّةِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» وَقولهُ فِي خَبَرِ أَبِي قَتَادَةَ «الْآنَ بَرَدَتْ جِلْدَتُهُ» وَصَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ صَارَ وَفَاءً، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَدْيُونٍ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً، وَقوله: «فَكَّ اللَّهُ رِهَانَك» لِأَنَّهُ كَانَ بِحَالٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَمَّا ضَمِنَ عَنْهُ فَكَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْجَوَابُ بَعْدُ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَتِمُّ بِصَلَاتِهِ عَقِيبَ ضَمَانِ عَلِيٍّ إذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ تَمَّ بِذَلِكَ.

متن الهداية:
قَالَ: (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ. فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ.
وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَهَذَا يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِطَرِيقِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ الطَّالِبُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحَقُّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ) وَيَدْخُلُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ الْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرَاهَا (وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ) ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَا تَجُوزُ وَهُوَ قول مُخَالِفٌ لِلْقول الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ كَقولنَا.
وَاسْتَدَلَّ لِقولهِ الْمُضَعَّفِ (بِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ) فَكَانَ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَنْقَادُ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ خُصُوصًا إذَا كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَكَذَا بِأَمْرِهِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِكَفَالَتِهِ لَا يُثْبِتُ لَهُ وِلَايَةً عَلَيْهِ وَصَارَ كَالْكَفَالَةِ بِبَدَنِ الشَّاهِدَيْنِ (وَ) اسْتَدَلَّ لِلْمَذْهَبِ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ (قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ») بِاعْتِبَارِ عُمُومِهِ.
وَقولهُ (بِنَوْعَيْهِ) أَيْ نَوْعَيْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِالزَّعِيمِ فِي الْمَالِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ غَارِمٌ، وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْمَالِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرْمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ بَلْ الْغُرْمُ أَدَاءُ مَا يَلْزَمُهُ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَالْغَرَامُ اللَّازِمُ ذَكَرَهُ فِي الْمُجْمَلِ، وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْإِحْضَارُ، وَقَدْ تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَالَةِ الْمَالِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ) وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُهُ بِجَامِعِ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ مَعَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالشَّرَائِطِ، وَمَا طَرَأَ مِنْ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ بِانْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَنْقَادُ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِلَا أَمْرِهِ يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِأَعْوَانِ الْحَاكِمِ.
وَأَبْطَلَ بَعْضُهُمْ قولهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا.
وَلَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُدْرَةِ الْمَنْفِيَّةِ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ لِيَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ بِقَلِيلٍ تَأَمَّلْ: وَرُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَلَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» وَكَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خُصُومَةٌ فَكَفَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنَفْسِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَاعْتُرِضَ بِالْمُنَاقَضَةِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِيهِمَا لَا تَصِحُّ وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَاجِبًا كَتَسْلِيمِهَا لِلْجَوَابِ.
وَالْجَوَابُ مَنَعَ عَدَمَ صِحَّتِهَا مُطْلَقًا بَلْ الْمَنْصُوصُ فِي الْأَصْلِ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ وَجْهٍ فِي بَعْضِهَا وَمِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَعْضِهَا.
وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَعَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ لِلُزُومِ التَّنَافِي، فَإِنَّ الْحَدَّ يَحْتَالُ فِي دَرْئِهِ وَصِحَّةُ الْكَفَالَةِ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالِاحْتِيَالِ لِاسْتِيفَائِهِ فَقَامَ الْمَانِعُ فِيهِمَا.
وَأَمَّا الْجَبْرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهَا فَفِي الْحُدُودِ لَا يُجْبَرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْقِصَاصُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
وَأَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِ الشَّاهِدِ لِيُؤَدِّيَ فَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تُفِيدُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ لَهُ بِالْأَدَاءِ إمَّا أَنْ يُجِيبَ وَيَحْضُرَ أَوْ لَا؛ فَفِي الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ، وَفِي الثَّانِي يَلْزَمُ فِسْقُهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَوْ أَحْضَرَهُ الْكَفِيلُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ وَكَذَا بِبَدَنِهِ وَبِوَجْهِهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْبَدَنِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا عَلَى مَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، كَذَا إذَا قَالَ بِنِصْفِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْتُ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَصِحُّ (وَكَذَا إذَا قَالَ ضَمِنْته) لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُوجِبِهِ (أَوْ قَالَ) هُوَ (عَلَيَّ) لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ (أَوْ قَالَ إلَيَّ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
(قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ») (وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ أَوْ قَبِيلٌ بِهِ) لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ.
وَالْقَبِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قَبَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت إلَخْ) شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْكَفَالَةُ، وَهِيَ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ تَكَفَّلْتُ وَضَمِنْتُ وَزَعِيمٌ وَقَبِيلٌ وَحَمِيلٌ وَعَلَيَّ وَإِلَيَّ وَلَك عِنْدِي هَذَا الرَّحْلُ وَعَلَيَّ أَنْ أُوفِيَك بِهِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَلْقَاك بِهِ أَوْ دَعْهُ إلَيَّ، وَحَمِيلٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى كَفِيلٍ بِهِ، يُقَالُ حَمَلَ بِهِ حَمَالَةً بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ.
وَرُوِيَ فِي الْفَائِقِ «الْحَمِيلُ ضَامِنٌ» وَأَمَّا الْقَبِيلُ فَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى الْكَفِيلِ، وَيُقَالُ قَبَلَ بِهِ قَبَالَةً بِفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُوجِبُ لُزُومَ مُوجِبِ الْكَفَالَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلَى جُمْلَةِ الْبَدَنِ أَوْ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ حَقِيقَةً فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَمَا لَا فَلَا عَلَى وِزَانِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا مَرَّ مِثْلُ كَفَلْتُ أَوْ أَنَا حَمِيلٌ أَوْ زَعِيمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ رَقَبَتِهِ أَوْ رُوحِهِ أَوْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يُعَبَّرُ بِهَا حَقِيقَةً كَالنَّفْسِ وَالْجَسَدِ وَالْبَدَنِ وَعُرْفًا وَلُغَةً وَمَجَازًا كَهُوَ رَأْسٌ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا إذَا كَفَلَ بِعَيْنِهِ.
قَالَ الْبَلْخِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِحُّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْبَدَنَ.
وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ فِي الْكَفَالَةِ وَالطَّلَاقِ إذْ الْعَيْنُ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ، يُقَالُ عَيْنُ الْقَوْمِ وَهُوَ عَيْنٌ فِي النَّاسِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي زَمَانِهِمْ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ وَيَتَأَتَّى فِي دَمِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ (وَكَذَا) إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ كَكَفَلْتُ (بِنِصْفِهِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا) وَوَجْهُ ضَمِنْت (بِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ) بِمُوجِبِهِ (لِأَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ لُزُومُ الضَّمَانِ فِي الْمَالِ) فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ (وَعَلَى صِيغَةِ الْتِزَامٍ وَإِلَيَّ فِي مَعْنَاهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ كَلًّا) أَيْ يَتِيمًا (فَإِلَيَّ) لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.
وَقولهُ (وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ) اقْتَصَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا الْحَدِيثُ يُرِيدُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا» وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد «وَأَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيَّ» (بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ) لَا تَثْبُتُ بِهِ الْكَفَالَةُ (لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ) وَكَذَا بِمَعْرِفَتِهِ وَكَذَا أَنَا ضَامِنٌ لَك عَلَى أَنْ أُوقِفَك عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ أَدُلَّك عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَنْزِلِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لِتَعْرِيفِهِ أَوْ عَلَى تَعْرِيفِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَلْزَمَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُتَعَدٍّ إلَى اثْنَيْنِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَنْ يُعَرِّفَهُ الْغَرِيمَ، بِخِلَافِ مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا مَعْرِفَةَ الْكَفِيلِ لِلْمَطْلُوبِ.
وَعَنْ نُصَيْرٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبَا سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيَّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَّا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِيك لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ قَالَ هَذَا عَلَى مُعَامَلَةِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ: هَذَا الْقول عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَالظَّاهِرُ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي خِزَانَةِ الْوَاقِعَاتِ وَبِهِ يُفْتِي: أَيْ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لَكِنْ نَصَّ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ فِي قول أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَك بِمَعْرِفَةٍ فَلَأَنْ يَلْزَمَهُ، وَعَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ النَّاسِ.
وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: لَوْ قَالَ الدَّيْنُ الَّذِي لَك عَلَى فُلَانٍ أَنَا أَدْفَعُهُ إلَيْك أَوْ أُسَلِّمُهُ إلَيْك أَوْ أَقْبِضُهُ لَا يَكُونُ كَفَالَةً مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ مُتَفَرِّقَاتِ خَالِهِ قَيَّدَهُ بِمَا إذَا قَالَهُ مُنَجَّزًا فَلَوْ مُعَلَّقًا يَكُونُ كَفَالَةً نَحْوُ أَنْ يَقول: إنْ لَمْ يُؤَدِّ فَأَنَا أُؤَدِّي، نَظِيرُهُ فِي النَّذْرِ لَوْ قَالَ: أَنَا أَحُجُّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنَا أَحُجُّ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَاذَا يَدَّعِي.
وَلَوْ غَابَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ يَحْبِسُهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ.
قَالَ: (وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ كَاَلَّذِي أُعْسِرَ، وَلَوْ سَلَّمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَرِئَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً.
قَالَ: (وَإِذَا كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا: لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا (وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ.
وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ) أَيْ بِالنَّفْسِ (تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ) أَوْ يَوْمٍ (لَزِمَهُ إحْضَارُهُ فِيهِ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ إحْضَارُهُ فِيهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَا يَحْبِسُهُ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي حَبْسِهِ، كَمَا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَبْطُلُ، فَإِنْ غَابَ وَعَلِمَ مَكَانَهُ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ لِلْحَالِ وَيُؤَجِّلُ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ ظَهَرَتْ مُمَاطَلَةُ الْكَفِيلِ فَيُحْبَسُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لِلْقَاضِي تَعَذُّرُ الْإِحْضَارِ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ بِشُهُودٍ بِذَلِكَ فَيُخْرَجُ مِنْ الْحَبْسِ وَيُنْظَرُ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ كَالْإِعْسَارِ بِالدَّيْنِ، وَإِذَا أُخْرِجَ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ لَهُ فَيُلَازِمُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَشْغَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَكَانَهُ سَقَطَتْ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ؛ فَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ تَعْرِفُ مَكَانَهُ وَقَالَ الْكَفِيلُ لَا أَعْرِفُ؛ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُرْجَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَخْرُجُ إلَيْهَا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلتِّجَارَةِ فَالْقول لِلطَّالِبِ وَيُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَالْقول لِلْكَفِيلِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْلُ وَمُنْكِرٌ لُزُومَ الْمُطَالَبَةِ.
وَقِيلَ: لَا يُلْتَفَتُ إلَى قول الْكَفِيلِ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى مَا يُسْقِطُهَا، فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا يُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قولهُ (وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) يَعْنِي يُمْهِلُهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَادَعَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَاللِّحَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَوْتًا فَهُوَ حُكْمِيٌّ فِي مَالِهِ لِيُعْطِيَ الْأَقْرَبَ إلَيْهِ، أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ.
لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَسْقُطُ الطَّلَبُ كَمَا هُوَ فِيمَا دُونَهَا، وَالثَّانِي يَسْقُطُ إلْحَاقًا بِالْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ.
قولهُ: (إذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى أَنْ يُخَاصِمَهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ) مِنْ الْأَمْصَارِ (بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ) سَوَاءٌ قَبِلَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَا كَالْمَدْيُونِ إذَا جَاءَ بِالدَّيْنِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ) بِالْكَفَالَةِ (إلَّا مَرَّةً) وَقَدْ حَصَلَتْ.
ثُمَّ الشَّرْطُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمِصْرُ وَهُوَ الْمِصْرُ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مَسَائِلِ التَّسْلِيمِ، وَوَضْعُهَا هُنَا أَنْسَبُ.
وَجْهُ قولهِ أَنَّهُ يُثْبِتُ بِذَلِكَ قُدْرَةَ الْمُخَاصَمَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُمَا يَقولانِ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّكْفِيلِ بِنَفْسِهِ تَحْصِيلُهُ فِي وَقْتٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى مُخَاصَمَتِهِ وَهَذَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا إلَّا فِي مِصْرِهِ؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ ظَاهِرٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْصَارِ، وَلَا يُفِيدُ التَّكْفِيلُ فَائِدَتَهُ الْمَقْصُودَةَ بِهِ، وَقولهُمَا أَوْجَهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: الْقَاضِي إذَا أَخَذَ كَفِيلًا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ إذَا سَلَّمَهُ إلَى الْقَاضِي أَوْ إلَى رَسُولِهِ بَرِيءَ، وَإِنْ سَلَّمَ إلَى الْمُدَّعِي لَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يُضِفْ الْكَفَالَةَ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ أَضَافَ بِأَنْ قَالَ أَكْفُلُ لِلْمُدَّعِي فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ، أَمَّا إنْ عَيَّنَ مَجْلِسَ الْقَاضِي أَوْ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِيءَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَفَالَةِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ وَهُوَ قُدْرَةُ الْمُخَاصَمَةِ.
وَحِينَ اخْتَلَفَ الزَّمَانُ رَأَى الْمَشَايِخُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إيصَالِهِ إلَى حَضْرَةِ الْقَاضِي بِمُعَاوَنَةِ النَّاسِ وَعُبَّارُ الطَّرِيقِ الْآنَ لَا يَقْدِرُونَ أَوْ لَا يَفْعَلُونَ إنْ قَدَرُوا فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصًّا وَقَالَ: لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُعِينُونَهُ لِلْإِحْضَارِ.
قِيلَ وَيَجِبُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَذَا.
وَلَوْ شَرَطَ تَسْلِيمَهُ عِنْدَ الْأَمِيرُ فَسَلَّمَهُ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ (وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ سَوَادٍ لَا يَبْرَأُ) اتِّفَاقًا وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهِ. وَفِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ مَحْبُوسٍ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ الْكَفِيلُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى السِّجْنِ، وَمَفْهُومُ قولهِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَفِي الْعُيُونِ: لَوْ ضَمِنَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَحُبِسَ الْمَطْلُوبُ فِي السِّجْنِ فَأَتَى بِهِ الَّذِي ضَمِنَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَدَفَعَهُ إلَيْهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ فِي السِّجْنِ؛ وَلَوْ ضَمِنَهُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ يَبْرَأُ، وَلَوْ خُلِّيَ عَنْ الْحَبْسِ ثُمَّ حُبِسَ ثَانِيًا فَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ، إنْ كَانَ الْحَبْسُ الثَّانِي مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا صَحَّ الدَّفْعُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ لَا يَبْرَأُ.
وَلَوْ حَبَسَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ ثُمَّ أَخَذَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَقَالَ: ادْفَعْهُ إلَيَّ فَدَفَعَهُ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ قَالَ مُحَمَّدٌ: بَرِئَ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ وَهُوَ فِي حَبْسِهِ.
وَمَفْهُومُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قول الْمُصَنِّفِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ.
وَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ فِي السِّجْنِ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْك عَنْ كَفَالَتِهِ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا وَبَرِئَ الْكَفِيلُ.
وَفِي الْوَاقِعَاتِ: رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْكَفِيلُ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ) يَعْنِي يَبْرَأُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ) الَّذِي هُوَ إحْضَارُ النَّفْسِ (بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ) إذَا مَاتَ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ بِأَدَاءِ مَا كَفَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَيُطَالِبُ بِهِ الْوَصِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَارِثُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ وَتَرْجِعُ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ: أَعْنِي الْمَكْفُولَ عَنْهُ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَمَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا وَلَا تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاقٍ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ.
وَعَنْ زُفَرَ لَا يَحُلُّ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَى الْكَفِيلِ أَيْضًا.
أَمَّا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلَا تَسْقُطُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ كَمَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَوْجُودٌ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَالْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَيُطَالِبُهُ بِذَلِكَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ فَيَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَكِيلُ الْكَفِيلِ أَوْ رَسُولُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْته إلَيْك أَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ لِأَنَّهُ) أَيْ دَفْعَ الْمَطْلُوبِ هُوَ (مُوجِبُ التَّصَرُّفِ) يَعْنِي الْكَفَالَةَ فَلَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالْمِلْكِ مُوجِبُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ وَجَوَازُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا وَالْبَرَاءَةُ مُوجِبُ الدَّفْعِ فَكَانَتْ حُكْمَ مُتَعَلِّقٍ مُوجِبِ الْكَفَالَةِ، فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَتْ وَقَدْ وُجِدَ، إذْ قَدْ فَرَضَ الدَّفْعَ فَتَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى اشْتِرَاطِهَا.
وَقولهُ (كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ) يَعْنِي إذَا سَلَّمَ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْقَبْضِ بَرِيءَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ كَالْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْمَالِكِ يَبْرَأُ مَعَ أَنَّهُ جَانٍ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَالْبَائِعُ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْكَفِيلَ تَسْلِيمُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مَا أُرِيدَتْ إلَّا لِلتَّوَثُّقِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَمَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَأَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِبَيَانِ أَنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مَرَّةً لَا بِقَيْدِ التَّكْرَارِ.
قولهُ: (وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ) أَيْ مِنْ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقول: سَلَّمْت نَفْسِي أَوْ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْك مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ (صَحَّ) عَنْ كَفَالَتِهِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَكْفُولَ (مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُطَالَبٌ بِالْحُضُورِ: يَعْنِي إذَا طَالَبَ الْكَفِيلَ فَكَانَ بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْقِطًا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا طَالَبَهُ بِمُعَجَّلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَالْمُحِيلِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ قَبِلَ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ (وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ رَسُولُ الْكَفِيلِ أَوْ وَكِيلُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ) يَعْنِي إذَا قَالَ: سَلَّمْت إلَيْك نَفْسَهُ عَنْ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ سَلَّمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ سَلَّمَهُ الْوَكِيلُ وَلَمْ يَقُلْ مَا ذَكَرْنَا لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَلَوْ سَلَّمَهُ أَجْنَبِيٌّ لَا بِأَمْرِ الْكَفِيلِ عَنْ الْكَفِيلِ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّالِبُ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَكَتَ الطَّالِبُ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا لَا يَبْرَأُ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَالِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحٌ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ (وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.
وَلَنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامٌ.
فَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ.
وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ ضَامِنٌ) لِلْأَلْفِ (لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ) فِي هَذَا (مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ) الْمُعَلَّقَةِ (لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ) وَلَعَلَّهُ يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ آخَرَ فَهَذَانِ مَطْلَبَانِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَخَالَفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ (تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ) فَكَمَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ كَأَنْ يَقول إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ بِعْتُك كَذَا بِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْآخَرُ لَا يَثْبُتُ الْبَيْعُ عِنْدَ الدُّخُولِ كَذَلِكَ.
هَذَا (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْكَفَالَةِ (يُشْبِهُ الْبَيْعَ) فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْكَفِيلَ بِالْأَمْرِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا أَدَّى فَصَارَ كَالْمُعَاوَضَةِ (وَيُشْبِهُ النَّذْرَ) ابْتِدَاءً (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ) تَبَرَّعَ فِي الِابْتِدَاءِ بِـ (الْتِزَامِ) الْمَالِ فَبِالنَّظَرِ إلَى الشَّبَهِ الْأَوَّلِ فَقَطْ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي فَقَطْ يَجُوزُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ النَّذْرَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ مُطْلَقًا فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ (فَقُلْنَا إنْ كَانَ) التَّعْلِيقُ (بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ) بَيْنَ النَّاسِ أَيْ تَعَارَفُوا تَعْلِيقَهَا بِهِ (صَحَّ عَمَلًا بِشَبَهِ النَّذْرِ) وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَدُخُولِ الدَّارِ (وَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ عَمَلًا بِشَبَهِ الْبَيْعِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ) ثُمَّ ذَكَرَ خُصُوصَ الْكَمِّيَّةِ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ اتِّفَاقِيٌّ فِي التَّصْوِيرِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى مَعْلُومِيَّةِ الْقَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لَا تَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ لَوْ قَالَ: كَفَلْت لَك بِمَالِك عَلَيْهِ صَحَّ، وَمَهْمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ لَزِمَهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَتَيْنِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الصَّحِيحِ عَنْهُ بَلْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّعْلِيقِ.
وَأَمَّا ثُبُوتُ صِحَّتِهِمَا فَلِلْمُقْتَضِي وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ ثَانِيًا مُعَلَّقَةٌ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَصَحَّتْ كَفَالَتَانِ مُتَعَدِّدَتَا الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ تِلْكَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَمُوجِبَ الْأُخْرَى تَسْلِيمُ الْمَالِ وَلَيْسَ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطًا لِلْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَدَّعِي بِهِ غَيْرَ الْمَالِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ مُعَلَّقًا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفَالَتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ إلَّا لَوْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ كَفَلْت بِنَفْسِهِ، عَلَى أَنِّي إنْ لَمْ أُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا كُنْت كَفِيلًا بِمَا عَلَيْهِ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَذَلِكَ بَلْ اللَّفْظُ عَلَى ثُبُوتِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مُنَجَّزًا بِقولهِ كَفَلْت بِنَفْسِهِ وَعَلَى تَعْلِيقِ كَفَالَةٍ أُخْرَى بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِهِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَثَبَتَ الْكَفَالَتَانِ.
وَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمُعَلَّقَةُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا فَهُوَ كَفِيلٌ بِكُلِّ مَالٍ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَدَفَعَهُ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قَبْلَهُ حَقٌّ أَنْ تَبْطُلَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ تَوَارَى الْمَكْفُولُ لَهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجِدْهُ الْكَفِيلُ لِيَدْفَعَهُ إلَيْهِ وَخَافَ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ يَرْفَعُ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي لِيُنَصِّبَ وَكِيلًا فَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَتَوَارَى حَتَّى كَادَتْ تَمْضِي يَرْفَعُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي لِيُنَصِّبَ وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا خِلَافُ قول أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ فَعَلَهُ الْقَاضِي فَهُوَ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِيهَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَالْمَالُ الَّذِي لِلطَّالِبِ عَلَى فُلَانٍ رَجُلٌ آخَرُ وَهُوَ كَذَا عَلَى الْكَفِيلِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ.
وَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَاحِدًا فِي الْكَفَالَتَيْنِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مُخْتَلَفًا فِيهِمَا فَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ وَاحِدًا وَالْمَطْلُوبُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فَهُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى غَدٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فِي الْمَجْلِسِ مَثَلًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَاشْتَرَطَ الْكَفِيلُ عَلَى الطَّالِبِ إنْ لَمْ تُوَافِ غَدًا لِتَقْبِضَهُ مِنِّي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ فَالْتَقَيَا بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ الْكَفِيلُ قَدْ وَافَيْت وَقَالَ الطَّالِبُ قَدْ وَافَيْت وَلَمْ تُوَافِ أَنْتَ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَوْ أَقَامَ الْمَطْلُوبُ بَيِّنَةً عَلَى الْمُوَافَاةِ بَرِيءَ مِنْ الْكَفَالَتَيْنِ، وَكُلَّمَا كَفَلَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّهُ وَافَى بِهِ لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ: فَإِنْ غَابَ فَلَمْ أُوَافِك بِهِ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى أَنْ يُوَافِيَهُ بَعْدَ الْغَيْبَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ) يَعْنِي بَعْدَ الْغَدِ (ضَمِنَ الْمَالَ) لِلْمَكْفُولِ لَهُ وَيَرْجِعُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْمَالُ إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بَقَاءُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَهِيَ قَدْ زَالَتْ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ عَلَى مَا عُرِفَ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْكَفِيلَ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ قَبْلَ الْوَقْتِ.
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ وُضِعَ لِفَسْخِ الْكَفَالَةِ فَتُفْسَخُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ الِانْفِسَاخِ بِالْمَوْتِ إنَّمَا هُوَ ضَرُورَةُ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُفِيدِ فَيُقْتَصَرُ إذْ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَعَدِّيهَا إلَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ.
وَأَمَّا جَوَابُ الْمَحْبُوبِيِّ وَالْمَبْسُوطِ بِأَنَّ تَصْحِيحَهَا بِطَرِيقِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ كَفَلَ بِالْمَالِ لِلْحَالِ ثُمَّ عَلَّقَ إبْرَاءَهُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ.
فَخُرُوجٌ عَنْ الظَّاهِرِ احْتِيَاطًا لِإِيجَابِ الْمَالِ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَفْظَ الْغَدِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَقَاضِي خَانْ؛ فَيَثْبُتُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ وَالْقُدُورِيِّ بِأَنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ وَتِلْكَ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ فَلِذَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ هَذِهِ تُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الْمُوَافَاةِ إذَا كَانَ لِعَجْزِ الْمَوْتِ لَا أَثَرَ لَهُ وَيَثْبُتُ عِنْدَهُ الضَّمَانُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَجْزَ الْمُوجِبَ لِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ يَكُونُ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَوْتِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ غُلِبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ وَلَا تَقْصِيرَ مِنْهُ فِيهِ، وَإِلَّا فَكَوْنُ تِلْكَ مُقَيَّدَةً وَهَذِهِ مُطْلَقَةً لَا يُفِيدُ عَدَمَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ هَذِهِ، إذْ قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْمَدَارَ وُجُودُ الشَّرْطِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِيهِ، هَذَا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، فَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ هَلْ يَجِبُ الْمَالُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ إذَا مَضَى الْوَقْتُ؟ قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: فِي الْأَصْلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ وَافَى وَرَثَةُ الْكَفِيلِ بِالْمَكْفُولِ بِهِ الطَّالِبَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمَالُ، وَإِنْ أَبَى الْقَبُولَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ الْمَالُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ بَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالًا مُطْلَقًا بِخَطَرٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَا يَجِبُ إحْضَارُ النَّفْسِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا تَصِحُّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ إلَخْ) صُورَتُهَا فِي الْجَامِعِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: فِي رَجُلٍ لَزِمَ رَجُلًا وَادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ فَبَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا أَوْ لَزِمَهُ وَلَمْ يَدَّعِ مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: دَعْهُ وَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ إلَى غَدٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ فَرَضِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا، قَالَ عَلَيْهِ الْمِائَةُ الدِّينَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إذَا ادَّعَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنَّهُ لَهُ، وَهَذَا قول أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ ادَّعَى وَلَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى كَفَلَ لَهُ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ ادَّعَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ، وَأَرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ مَا إذَا بَيَّنَهَا: أَيْ ذَكَرَ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ كَذَا قِيلَ: وَالْأَفْيَدُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ مَا إذَا ادَّعَى الْمِائَةَ عَيَّنَهَا أَوْ لَا، وَمَا إذَا لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا حَتَّى كَفَلَ لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْمِقْدَارَ الَّذِي سَمَّاهُ الْكَفِيلُ.
لِمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ مَالٍ مُطْلَقٍ بِخَطَرٍ هُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ إذَا لَمْ يَنْسُبْ الْمِائَةَ إلَى مَا عَلَيْهِ وَهُوَ رِشْوَةٌ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمَطْلُوبَ فِي الْحَالِ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ هَذَا الْمَالِ أَوْ كَلَامُهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَمَا يَحْتَمِلُ مَا يَدِّعِيهِ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالشَّكِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَوَّلَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ صِحَّتَهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى (وَلَمْ تَصِحَّ) مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى بِهِ (مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَمْ يَجِبْ إحْضَارُ النَّفْسِ فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَمْ تَصِحَّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ) وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ الثَّانِيَةُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَوَّلَ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْكَفَالَتَيْنِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى) قَبْلَ الْحُضُورِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي احْتِرَازًا عَنْ حِيَلِ الْخُصُومِ ثُمَّ يَقَعُ الْبَيَانُ فِيهِ (فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بُيِّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَيَتَبَيَّنُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا) صِحَّةُ (الثَّانِيَةِ) وَنَحْنُ قَدْ أَسْمَعْنَاك عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَالُ مُنْكَرٌ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فَعَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَيُقَالُ: إنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الدَّعْوَى بِأَلْفٍ ظَهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَلْفَ الَّتِي سَيَدَّعِيهَا حُكَّامُنَا بِأَنَّ الْكَفِيلَ كَانَ يَدْرِي خُصُوصَ دَعْوَاهُ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ حِينَ تَقَعُ عَلَى اعْتِبَارِ بَيَانِ الدَّعْوَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّا لَا نَحْكُمُ حَالَ صُدُورِهَا بِالْفَسَادِ بَلْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى ظُهُورِ الدَّعْوَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ ظَهَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ بِالْأَلْفِ الْمُدَّعَى بِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ الَّتِي عَلَيْهِ فَمَضَى غَدٌ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ وَفُلَانٌ يَقول: لَا شَيْءَ عَلَيَّ وَالطَّالِبُ يَدَّعِي أَلْفًا وَالْكَفِيلُ يُنْكِرُ وُجُوبَهُ عَلَى الْأَصِيلِ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَفِي قولهِ الْآخَرِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ.
وَيُسْتَفَادُ بِهَا أَنَّ الْأَلْفَ تَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمَكْفُولِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ يُنْكِرُ وُجُوبَهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَظْهَرُ فِيهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) مَعْنَاهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَلِيقُ بِهِمَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ.
قَالَ: (وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي) لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ هَاهُنَا، وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ: إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قولهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ لَا يُجْبَرُ) عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ (عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ) وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى (وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ فِيهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ لِإِخْلَاءِ الْأَرْضِ عَنْ الْفَسَادِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ لَيْسَ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُعْطِيَ بَلْ يُلَازِمُهُ لَا يَدَعُهُ يَدْخُلُ بَيْتَهُ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ أَوْ يَجْلِسُ مَعَهُ خَارِجَ الْبَيْتِ أَوْ يُعْطِيَ كَفِيلًا (بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ) كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ قَبْلَهَا لِأَنَّ قَبْلَهَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ دَعْوَى أَحَدٍ فِي الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَلَمْ تَقَعْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لِحَقٍّ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ أَوْ شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ يُحْبَسُ وَبِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِيثَاقُ فَلَا مَعْنَى لِلْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ حَتَّى يُجْبِرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْحُضُورِ وَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِإِحْضَارِهِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْبَسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْيَاقِ فِيهِ أَكْثَرُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَبْسَ فِي هَذَا لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بَلْ لِتُهْمَةِ الْإِعَارَةِ وَالْفَسَادِ تَعْزِيرًا، وَإِذَا لَمْ يَكْفُلْ بِهِ مَاذَا يَصْنَعُ؟ قَالَ: يُلَازِمُهُ إلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقَاضِي عَنْ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ فِيهَا وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الَّذِي يَجْمَعُ الْخَمْرَ وَيَشْرَبُهُ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ: أَحْبِسُهُ وَأُؤَدِّبُهُ ثُمَّ أُخْرِجُهُ، وَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَضَرْبِ النَّاسِ فَإِنِّي أَحْبِسُهُ وَأُخَلِّدُهُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يَتُوبَ، لِأَنَّ شَرَّ هَذَا عَلَى النَّاسِ وَشَرَّ الْأَوَّلِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ.
قولهُ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ») رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ بَقِيَّةِ الْمَجْهُولِينَ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ.
فِي الْكَامِلِ عَنْ عُمَرَ الْكَلَاعِيِّ وَأَعَلَّهُ بِهِ.
قَالَ: مَجْهُولٌ لَا أَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ بَقِيَّةٍ، كَمَا يُرْوَى عَنْ سَائِرِ الْمَجْهُولِينَ (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ) يَعْنِي الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَاَلَّتِي فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ (عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ) حَيْثُ يُجْبَرُ الْمَطْلُوبُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ بِنَفْسِهِ.
هَذَا (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ) أَيْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ (بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِلَا جَبْرٍ) يَعْنِي فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ (جَازَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ) وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ (لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ فَيُطَالِبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ) وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ إذَا سَمَحَ بِهَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ وَاجِبٌ فِيهَا، لَكِنْ نَصَّ فِي الْفَوَائِدِ الْخَبَّازِيَّةِ وَالشَّاهِيَة عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا لِلْعِبَادِ حَقٌّ كَحَدِّ الْقَذْفِ لَا غَيْرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ، وَلِأَنَّهُ مُعَارِضٌ بِوُجُوبِ الدَّرْءِ (وَلَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي) أَنَّهُ عَدَلَ لِنَفْيِ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْحَبْسَ هُنَا لِلتُّهْمَةِ لَا لِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ (وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ، إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ) فَإِذَا وَقَعَتْ التُّهْمَةُ حُبِسَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ وَالْكَلَامَ فِيهِ فِي الْحُدُودِ (بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَالُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ يُحْبَسُ فَكَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهَا.
أَمَّا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فَأَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا الْقَتْلُ، وَالْحَبْسُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَجَازَ أَنْ يُعَاقَبَ بِالْحَبْسِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.
وَفِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ: التُّهَمَةُ بِالتَّحْرِيكِ، وَأَصْلُ التَّاءِ فِيهِ وَاوٌ مِنْ وَهَمْت الشَّيْءَ أَهِمُهُ وَهْمًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: أَيْ وَقَعَ فِي خُلْدِي، وَالْوَهْمُ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْخَاطِرِ، وَاتَّهَمْت فُلَانًا بِكَذَا وَالِاسْمُ التُّهْمَةُ بِالتَّحْرِيكِ أَصْلُهُ اوْتَهَمْتُ كَمَا فِي اتَّكَلْت أَصْلُهُ اوْتَكَلْتُ بِمَعْنَى اعْتَمَدْت قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنْهَا وَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قولهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ) إذْ هُمَا يَقولانِ بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ فَيَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ فَكَانَ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُحْبَسُ وَلَا يَكْفُلُ، وَفِي أُخْرَى يَكْفُلُ وَلَا يُحْبَسُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِأَحَدِهِمَا.
وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى يُحْبَسُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَفِيلٍ، وَبِالثَّانِيَةِ يَكْفُلُ بِلَا حَبْسٍ إنْ قَدَرَ عَلَى الْكَفِيلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ فَيُمْكِنُ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهِمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ وَالْخَرَاجُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى يُحْبَسَ بِهِ وَيُلَازَمَ وَيُمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ وَالرَّهْنُ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَالْخَرَاجُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ (فَأَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ) أَيْ كُلٌّ مِنْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ وَعَقْدِ الرَّهْنِ وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ لِلْخَرَاجِ مِنْ الرَّهْنِ فَصَحَّ كُلٌّ مِنْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ بِهِ.
وَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قولهُ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ لَفٌّ وَنَشْرٌ، فَالْمُطَالَبَةُ تَرْجِعُ إلَى الْكَفَالَةِ وَالِاسْتِيفَاءُ يَرْجِعُ إلَى الرَّهْنِ.
وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الدَّيْنِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي حُكْمِ الصِّلَاتِ وَوُجُوبَهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَلْزُومًا لِلَوَازِمِ الدَّيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا صَحَّ الْعَقْدَانِ الْمَذْكُورَانِ.
بِخِلَافِ دَيْنِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطَالِبٌ، مِنْ الْعِبَادِ وَهُوَ الْإِمَامُ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَالِكُ فِي الْبَاطِنَةِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الدَّيْنِ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ إيجَابُ تَمْلِيكِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْغِنَى، وَلِذَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ جَبْرًا لِلْوَرَثَةِ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَخْلُصْ كَوْنُهُ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ الْعِبَادِ عَنْ شُبْهَةِ عَدَمِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ لِلْعَيْنِ يَتَحَقَّقُ مُطَالَبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَقِيقَةً، بَلْ حَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَالِكِ مُطَالَبًا لِلْمَالِكِ، فَالْمَالِكُ مُطَالَبٌ بِفَتْحِ اللَّامِ لَيْسَ غَيْرُ، وَمُطَالَبَةُ الْإِمَامِ لَيْسَ لِإِيصَالِ الْمُسْتَحَقِّينَ إلَى أَمْلَاكِهِمْ بَلْ إلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ لَا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنَّهَا مَمْلُوكَاتٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ فَهُمَا كَفِيلَانِ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمَقْصُودُ التَّوَثُّقُ، وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ فَلَا يَتَنَافَيَانِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ) بِنَفْسِهِ جَازَ (وَهُمَا كَفِيلَانِ) بِالنَّفْسِ (لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ) وَجَازَ تَعَدُّدُ الْمُلْتَزِمِينَ بِهَا لِزِيَادَةِ التَّوَثُّقِ.
ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا نَفْسَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ إنْ كَفَلُوا مَعًا طُولِبَ كُلٌّ بِمَا يَخُصُّهُ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ جَازَتْ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالْكُلِّ.
مَثَلًا: كُفِلَ ثَلَاثَةٌ مَعًا بِأَلْفٍ لَا يُطَالَبُ أَحَدُهُمْ إلَّا بِثُلُثِهَا، وَلَوْ كُفِلُوا بِهَا عَلَى التَّعَاقُبِ طُولِبَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْأَلْفِ، وَأَيُّهُمْ قَضَى سَقَطَتْ عَنْ الْبَاقِينَ.

متن الهداية:
(وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ مَعْلُومًا كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ أَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقول تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ أَوْ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ) لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ إجْمَاعٌ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ لِشَجَّةٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَتْ السِّرَايَةُ وَالِاقْتِصَارُ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَسَيَأْتِيك فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ) هُوَ عَدِيلُ قولهِ أَوَّلَ الْبَابِ: الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ الصَّرِيحَةَ لَوْ قَالَ: أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ إنَّمَا قَالَ فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ إلَخْ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمَكْفُولُ بِهِ مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ هُوَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تَجُوزُ بِالْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَالٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ لِوُقُوعِ الْمُمَاكَسَاتِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْكَفَالَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ كَالنَّذْرِ لَا يُقْصَدُ بِهِ سِوَى ثَوَابِ اللَّهِ أَوْ رَفْعِ الضِّيقِ عَنْ الْحَبِيبِ فَلَا يُبَالَى بِمَا الْتَزَمَ فِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إقْدَامُهُ بِلَا تَعْيِينِهِ لِلْمِقْدَارِ حِينَ قَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ، فَكَانَ مَبْنَاهَا التَّوَسُّعَ فَتُحُمِّلَتْ فِيهَا الْجَهَالَةُ.
وَمِنْ آثَارِ التَّوَسُّعِ فِيهَا جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَمَا نُوقِضَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَك بِبَعْضِ مَالِك عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَمْنُوعٌ بَلْ يَصِحُّ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ لِلضَّامِنِ وَيَلْزَمُ أَنْ يُبَيِّنَ أَيَّ مِقْدَارٍ شَاءَ (وَعَلَى ضَمَانِ الدَّرَكِ إجْمَاعٌ) وَضَمَانُ الدَّرَكِ أَنْ يَقول لِلْمُشْتَرِي: أَنَا ضَامِنٌ لِلثَّمَنِ إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ أَحَدٌ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ أَوْ كُلِّهِ، وَقَدْ نَقَلَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى جَوَازِ ضَمَانِ الدَّرَكِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقولهِ تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِإِنْكَارٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ كَانَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا كَمَا يُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا أَنَّ الْحِمْلَ الصَّادِرَ خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ (وَصَارَ كَمَا لَوْ كَفَلَ بِشَجَّةٍ) أَيْ خَطَأٍ، فَإِنَّ الْعَمْدَ عَلَى تَقْدِيرِ السِّرَايَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ إذَا كَانَتْ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ وَلَا كَفَالَةَ بِالْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِي الْكَفَالَةِ بِهَا جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ فَإِنَّهَا إنْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ وَجَبَ دِيَةُ النَّفْسِ وَإِلَّا فَأَرْشُ الشَّجَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ صَحَّ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدَّيْنِ الصَّحِيحِ مَا لَا يَكُونُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إسْقَاطِ هَذَا الدَّيْنِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّهُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَكَذَا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ دَيْنِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ حَتَّى يَمْنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الدَّيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالدَّرَكُ التَّبِعَةُ وَفِيهِ فَتْحُ الرَّاءِ وَسُكُونُهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ كَفِيلَهُ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهُ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَرَاءَةَ فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِدُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ بِهَا الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً (وَلَوْ طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا) لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ الضَّمُّ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّمْلِيكُ مِنْ الثَّانِي، أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
الشَّرْحُ:
(ثُمَّ الْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ) وَهُوَ قول أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ (وَلَهُ مُطَالَبَتُهُمَا) جَمِيعًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَذَلِكَ يُسَوِّغُ مُطَالَبَتَهُمَا أَوْ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شَاءَ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَحِينَئِذٍ لَا يُطَالِبُ الْأَصِيلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ حَوَالَةٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْكَفَالَةِ تُجُوِّزَ بِهَا فِيهَا فَتَجْرِي حِينَئِذٍ أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ الْأَصِيلُ تَنْعَقِدُ كَفَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى فِيهِمَا (بِخِلَافِ الْمَالِكِ) الْمَغْصُوبِ مِنْهُ (إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ) يَعْنِي الْغَاصِبَ وَغَاصِبَ الْغَاصِبِ إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْآخَرَ (لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ) تَضْمِينَ (أَحَدِهِمَا) أَيْ إنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ (يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ) فَيَبْرَأُ الْآخَرُ بِالضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ لَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ مَا لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ) مِثْلُ أَنْ يَقول مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَوْ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ فَعَلَيَّ أَوْ مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقولهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قولهِ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قولهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقولهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا، إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ) مِثْلُ أَنْ يَقول مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ وَمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ، أَيْ مَا وَجَبَ وَثَبَتَ فَعَلَيَّ مِنْ ذَوْبِ الشَّحْمِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إنْ بَايَعْته فَعَلَيَّ دَرَكُ ذَلِكَ الْبَيْعِ.
وَإِنْ ذَابَ لَك عَلَيْهِ شَيْءٌ فَعَلَيَّ، وَكَذَا مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ، وَإِذَا صَحَّتْ فَعَلَيْهِ مَا يَجِبُ بِالْمُبَايَعَةِ الْأُولَى، فَلَوْ بَايَعَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْمُبَايَعَةِ الثَّانِيَةِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا.
وَفِي نَوَادِر أَبِي يُوسُفَ بِرِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ: يَلْزَمُهُ كُلُّهُ، وَلَوْ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَنْ هَذَا الضَّمَانِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُبَايَعَةِ صَحَّ، حَتَّى لَوْ بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ وَقَيَّدَ بِقولهِ فُلَانًا لِيَصِيرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مَعْلُومًا فَإِنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ كَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ فِي الْإِضَافَةِ.
وَلَوْ قَالَ مَا بَايَعْت مِنْ النَّاسِ فَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ بِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِهِ، بِخِلَافِ انْفِرَادِ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ قَلِيلَةٌ تُتَحَمَّلُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا وَجَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُهَا مُطْلَقًا وَجَهَالَةَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي التَّعْلِيقُ وَالْإِضَافَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ، وَفِي التَّنْجِيزِ لَا تَمْنَعُ.
مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا ذَابَ لَك عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ مَا بَايَعْت أَحَدًا فَهُوَ عَلَيَّ لَا تَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْإِضَافَةِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا ذَابَ لِأَحَدٍ عَلَيْك فَهُوَ عَلَيَّ لَا تَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ.
وَلَوْ قَالَ مَا غَصَبَك فُلَانٌ أَوْ سَرَقَك فَعَلَيَّ جَازَ لِانْتِفَائِهِمَا، وَمِنْ الْمُثُلِ مَا غَصَبَك أَهْلُ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا يَجِبُ لَك عَلَى وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَعَلَيَّ، وَفِيهِ لَا تَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ.
وَمَنْ بَايَعَ فُلَانًا الْيَوْمَ مِنْ بَيْعٍ فَعَلَيَّ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ شَيْءٌ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْوَاحِدَ مِنْ النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ حَاضِرِينَ مَا بَايَعْتُمُوهُ فَعَلَيَّ يَصِحُّ فَأَيُّهُمْ بَايَعَهُ لَزِمَ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لِمُعَيَّنِينَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ كَوْنُ أَهْلِ الدَّارِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسُوا مُعَيَّنِينَ مَعْلُومِينَ عِنْدَ الْمُتَخَاطَبِينَ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ.
وَمِنْهُ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ كَفَلْت لِهَذَا بِمَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَهُوَ أَلْفٌ أَوْ لِهَذَا بِمَا لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ كَفَلْت بِمَا لَك عَلَى فُلَانٍ أَوْ مَا لَك عَلَى فُلَانٍ رَجُلٌ آخَرُ جَازَ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي غَيْرِ تَعْلِيقٍ وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْكَفِيلِ فَيَحْتَاجُ إلَى فَرْقَيْنِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَكْفُولِ لَهُ.
وَعَنْهُ فِي التَّنْجِيزِ حَيْثُ يَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ دُونَ الْمَكْفُولِ لَهُ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي التَّنْجِيزِ وَالْإِضَافَةِ حَيْثُ يَصِحُّ فِي التَّنْجِيزِ دُونَ الْإِضَافَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي حَقِّ الطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالْمَكْفُولُ لَهُ كَالْبَائِعِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي وَقَبُولُهُ يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينَهُ فَكَانَتْ جَهَالَةُ الطَّالِبِ مَانِعَةً جَوَازَهَا كَجَهَالَةِ الْمُشْتَرِي مَانِعَةٌ لِلْبَيْعِ، وَالْكَفَالَةُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَيْثُ صَحَّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَأَمْرِهِ فَلَا تَمْنَعُ جَهَالَتُهُ جَوَازَهَا كَمَا لَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ الْمُعْتَقِ جَوَازَ الْعِتْقِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِرْسَالِ وَالتَّعْلِيقِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ إضَافَةِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ الطَّالِبِ.
وَإِنَّمَا جُوِّزَ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ وَالتَّعَامُلُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مَعْلُومًا فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا يَبْقَى عَلَى الْقِيَاسِ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ الْمُبْطِلَ هُوَ الْإِضَافَةُ لَا جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا جِئْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ بِقولهِ تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ تَضْعِيفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْعِمَالَةِ لَا الْكَفَالَةِ.
وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ضَامِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْأُجْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ لَا الْكَفَالَةِ، وَضَمَانُ الْعِمَالَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ كَمَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَقَالَ مَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ كَذَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْكَفَالَةِ بَلْ هُوَ الْعِمَالَةُ أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ فِي الْآيَةِ مَجْهُولٌ وَلَا كَفَالَةَ مَعَ جَهَالَتِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَتَأْتِي.
وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: الِاسْتِدْلَال بِهِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الزَّعِيمَ حَقِيقَةُ الْكَفِيلِ، وَالْمُؤَذِّنُ إنَّمَا نَادَى الْعِيرَ عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَلِكُ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمَلِكُ يَقول لَكُمْ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَادَى بِأَمْرِهِ ثُمَّ كَفَلَ عَنْ الْمَلِكِ بِالْجُعْلِ الْمَذْكُورِ لَا عَنْ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: جَوَازُ الْكَفَالَةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَجَوَازُهَا مُضَافَةٌ.
وَقَدْ عُلِمَ انْتِسَاخُ الْأَوَّلِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِهَا مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْآخَرِ كَمَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَبُطْلَانِهَا مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَغَيْبَتِهِ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْمَيِّتِ الْمَدْيُونِ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَال: «عَلِيٌّ هُمَا عَلَيَّ»، فَصَلَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ جَوَازُهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ هَذَا كَفَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى فِيهَا وَمِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ.
وَلَمَّا كَانَ إضَافَةُ الْكَفَالَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَبَهِهِ بِالْبَيْعِ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَوْرِدَ النَّصِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مُلَائِمًا، وَمُلَاءَمَةُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلُزُومِ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ (بِأَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقولهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ) فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي الْآيَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِالْجُعْلِ مُعَلَّقَةٌ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ وَهُوَ الْمَجِيءُ بِصَاعِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الْجُعْلِ.
الثَّانِي (أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قولهِ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ) فَإِنَّ قُدُومَهُ سَبَبٌ مُوَصِّلٌ لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ.
الثَّالِثُ (أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ إنْ غَابَ عَنْ الْبَلَدِ) أَوْ هَرَبَ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا.
وَمِنْ الصُّوَرِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ضَمِنْت مَالَك عَلَى فُلَانٍ إنْ تَوِيَ وَإِنْ حَلَّ مَالُك عَلَيْهِ وَلَمْ يُوَافِك بِهِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ قَالَ لِلْمُودَعِ: إنْ أَتْلَفَ الْمُودِعُ وَدِيعَتَك، أَوْ جَحَدَك فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ صَحَّ، وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ قَتَلَك ابْنُك فُلَانٌ خَطَأً فَأَنَا ضَامِنٌ لِلدِّيَةِ صَحَّ، بِخِلَافِ إنْ أَكَلَك سَبُعٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَيْسَ مُلَائِمًا كَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَدِمَ فُلَانٌ وَهُوَ غَيْرُ مَكْفُولٍ عَنْهُ أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ (وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا) يَعْنِي مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ كَأَنْ يَقول: كَفَلْت بِهِ أَوْ بِمَالِك عَلَيْهِ إلَى أَنْ تَهُبَّ الرِّيحُ أَوْ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْمَطَرُ لَا يَصِحُّ، إلَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ تَثْبُتُ حَالَّةً وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَهَا بِهِمَا نَحْوُ إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فَقَدْ كَفَلْت لَك بِمَالِك عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بَاطِلَةٌ أَصْلًا.
وَلَوْ جَعَلَ الْأَجَلَ الْحَصَادَ أَوْ الدِّيَاسَ أَوْ الْمِهْرَجَانَ أَوْ الْعَطَاءَ أَوْ صَوْمَ النَّصَارَى جَازَتْ الْكَفَالَةُ وَالتَّأْجِيلُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ الْغَيْرَ الْمُلَائِمِ لَا تَصِحُّ مَعَهُ الْكَفَالَةُ أَصْلًا وَمَعَ الْأَجَلِ الْغَيْرِ الْمُلَائِمِ تَصِحُّ حَالَّةً وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ لَكِنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا بِقولهِ (لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ) يَقْتَضِي أَنَّ فِي التَّعْلِيقِ بِغَيْرِ الْمُلَائِمِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ حَالَّةً، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْكَفَالَةَ بَاطِلَةٌ فَتَصْحِيحُهُ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ تَعْلِيقِهَا عَلَى مَعْنَى تَأْجِيلِهَا بِجَامِعِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَدَمَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَقَلَّدَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ التَّعْلِيقَ وَأَرَادَ التَّأْجِيلَ.
هَذَا وَظَاهِرُ شَرْحِ الْأَتْقَانِيِّ الْمَشْيُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: الشَّرْطُ إذَا كَانَ مُلَائِمًا جَازَ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ، وَمَثَّلَ بِقولهِ: إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا ضَامِنٌ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَلَكِنْ تَنْعَقِدُ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أَصْلُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: كَفَلَ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الطَّالِبُ جُعْلًا.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْكَفَالَةِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهَا فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ انْتَهَى.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إنْ كَانَتْ فِي صُلْبِهَا.

متن الهداية:
(فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ مَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ بِهِ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقول قول الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ (وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَالَكَ عَلَيْهِ) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ خُصُوصِ وَقْتِ الْوُجُوبِ عَلَى الْكَفِيلِ، وَهَذَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَعُ بِهَا الْكَفَالَةُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مِنْ قولهِ تَكَفَّلْت بِمَالَكَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِمِقْدَارِ أَلْفٍ أَوْ غَيْرِهَا (لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ بِهَا مَا عَلَيْهِ) فَوَجَبَ عَلَيْهِ (وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَالْقول قول الْكَفِيلِ فِي مِقْدَارِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) مَعَ يَمِينِهِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَيُصَدَّقُ) الْمَكْفُولُ عَنْهُ (فِي حَقِّ نَفْسِهِ) بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ (لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا) بِخِلَافِ قولهِ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا ثَبَتَ فَأَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِمَالٍ لَزِمَ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ حَصَلَ بِقولهِ وَكَذَلِكَ ذَابَ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى حَصَلَ وَقَدْ حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِمَا لَك عَلَيْهِ فَإِنَّهَا بِالدَّيْنِ الْقَائِمِ فِي الْحَالِ وَمَا ذَابَ وَنَحْوُهُ الْكَفَالَةُ بِمَا سَيَجِبُ، وَالْوُجُوبُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، بِخِلَافِ مَا قَضَى عَلَيْهِ لَك لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي وَمِثْلُ مَالَكَ مَا أَقَرَّ لَك بِهِ أَمْسِ، فَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ أَقْرَرْت لَهُ بِأَلْفٍ أَمْسِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ مَالًا وَاجِبًا عَلَيْهِ لَا مَالًا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَقَرَّ فِي الْحَالِ يَلْزَمُهُ؛ وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مَا كَانَ أَقَرَّ لَك، وَلَوْ أَبَى الْمَطْلُوبُ الْيَمِينَ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بَلْ بَذْلٌ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ قَالَ مَا أَقَرَّ فُلَانٌ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ فَمَاتَ الْكَفِيلُ ثُمَّ أَقَرَّ فُلَانٌ فَالْمَالُ لَازِمٌ فِي تَرِكَةِ الضَّامِنِ، وَكَذَا ضَمَانُ الدَّرَكِ.
وَفِيهَا: رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ بَايِعْ فُلَانًا فَمَا بَايَعْتَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ صَحَّ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ بِعْته مَتَاعًا بِأَلْفٍ وَقَبَضَهُ مِنِّي وَأَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِهِ اسْتِحْسَانًا بِلَا بَيِّنَةٍ، وَلَوْ جَحَدَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ الْبَيْعَ وَأَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ لَزِمَهُمَا، وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ يُعْطِك فُلَانٌ مَالَك عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنٌ بِذَلِكَ لَا سَبِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَقَاضَاهُ فَيَقول: لَا أُعْطِيك، وَلَوْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ لَزِمَ الضَّمَانُ أَيْضًا، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ لَكِنَّهُ قَالَ: أَنَا أُعْطِيك إنْ أَعْطَاهُ مَكَانَهُ أَوْ ذَهَبَ إلَى السُّوقِ فَأَعْطَاهُ أَوْ قَالَ اذْهَبْ إلَى الْمَنْزِلِ حَتَّى أُعْطِيَك مَالَك فَأَعْطَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْطِهِ مِنْ يَوْمِهِ لَزِمَ الْكَفِيلَ، وَلَوْ قَالَ: إنْ تَقَاضَيْت فُلَانًا مَالَك عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْطِك فَأَنَا لِمَالِك عَلَيْهِ ضَامِنٌ فَمَاتَ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ بَطَلَ الضَّمَانُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ عَجَزَ غَرِيمُك عَنْ الْأَدَاءِ فَهُوَ عَلَيَّ فَالْعَجْزُ يَظْهَرُ بِالْحَبْسِ إنْ حَبَسَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ لَزِمَ الْكَفِيلَ.
وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: رَجُلٌ كَفَلَ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ فُلَانٌ بِكَذَا مِنْ الْمَالِ فَلَمْ يَكْفُلْ فُلَانٌ فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ وَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فِي تَرْكِ الْكَفَالَةِ.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: جَمَاعَةٌ طَمِعَ الْوَالِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَاخْتَفَى بَعْضُهُمْ وَظَفِرَ الْوَالِي بِبَعْضِهِمْ فَقَالَ الْمُخْتَفُونَ الَّذِينَ وَجَدَهُمْ الْوَالِي لَا تُطْلِعُوهُمْ عَلَيْنَا وَمَا أَصَابَكُمْ فَهُوَ عَلَيْنَا بِالْحِصَصِ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي مِنْهُمْ شَيْئًا فَلَهُمْ الرُّجُوعُ، قَالَ: هَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى قول مَنْ يَقول بِجَوَازِ ضَمَانِ الْجِبَايَةِ، وَعَلَى قول عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ كَفَلَ بِمَا لَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ وَدِيعَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ الَّتِي عِنْدَهُ جَازَ إذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْوَدِيعَةَ مِنْهُ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْقول قول الْكَفِيلِ أَنَّهَا هَلَكَتْ، فَلَوْ غَصَبَهَا رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْحَوَالَةُ عَلَى هَذَا؛ وَلَوْ ضَمِنَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَبِعْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ ضَمَانٌ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الدَّارِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ إذْ هُوَ عِنْدَ أَمْرِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ (وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُؤَدِّيهِ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَقولهُ رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ، أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ، كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْإِرْثِ، وَكَمَا إذَا مَلَكَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْلِكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَصَارَ كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ. الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ بِإِذْنٍ وَبِلَا إذْنٍ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْكَفَالَةِ (الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ) أَيْ هَذَا الِالْتِزَامُ (تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ بِلَا ضَرَرٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ) لِأَنَّ ضَرَرَهُ (بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ) وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الرُّجُوعَ (عِنْدَ أَمْرِهِ وَ) عِنْدَ أَمْرِهِ يَكُونُ (قَدْ رَضِيَ بِهِ، فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ) مُقَيَّدٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَحْجُورًا وَأَمَرَ مَنْ يَكْفُلُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مَحْجُورًا فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا صَحَّ أَمْرُهُ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ أَمْرِهِ بِسَبَبِ الْإِذْنِ.
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُهُ عَلَى لَفْظَةِ عَنِّي كَأَنْ يَقول: اُكْفُلْ عَنِّي اضْمَنْ عَنِّي لِفُلَانٍ أَوْ عَلَى قولهِ وَأَنَا ضَامِنٌ وَنَحْوُهُ، فَلَوْ قَالَ: اضْمَنْ الْأَلْفَ الَّتِي لِفُلَانٍ عَلَيَّ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَائِنَ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ وَالْإِعْطَاءِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ لِيَرْجِعَ وَأَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ طَلَبَ تَبَرُّعِهِ بِذَلِكَ فَلَمْ يَلْزَمْ الْمَالُ، وَهَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِدَلِيلِ مَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ: إذَا قَالَ لِرَجُلٍ اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ اقْضِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا إذَا كَانَ خَلِيطًا أَوْ شَرِيكًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْقَضَاءَ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ قَضَاءً مِنْ جِهَةِ الَّذِي أَمَرَ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: اقْضِ عَنِّي وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاضًا مِنْهُ، وَمَتَى قُلْنَا: لَا يَقَعُ عَنْ الَّذِي أَمَرَ لَغَا الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ وُجُودُ الْأَمْرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً.
أَمَّا الْخَلِيطُ فَيَرْجِعُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْخَلِيطُ هُوَ الَّذِي يَعْتَادُ الرَّجُلُ مُدَايَنَتَهُ وَالْأَخْذَ مِنْهُ وَوَضْعَ الدَّرَاهِمِ عِنْدَهُ وَالِاسْتِجْرَارَ مِنْهُ، وَأَوْرَدَ مُطَالَبَةً بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرِ فِي الْكَفَالَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ أَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَأَدَّى عَنْهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ مَا لَمْ يَشْرِطْ الضَّمَانَ فَيَقول عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ فِي الرُّجُوعِ وَإِنْ ذَكَرَ فِيهِ لَفْظَةَ عَنِّي بَلْ حَتَّى يَشْتَرِطَ الضَّمَانَ وَفِي الْكَفَالَةِ اكْتَفَى بِهِ.
وَأَجَابَ فِي الذَّخِيرَةِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْآمِرَ طَلَبَ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَأْمُورِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ وَيَقْضِيَ عَنْهُ وَأَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِلْكًا لِلْآمِرِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْآمِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْقَابِضِ فَيَثْبُتُ عَلَى وَقْفِهِ، فَمَتَى ثَبَتَ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ يَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا.
وَفِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَمَلَّكَهُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ الدَّيْنُ السَّابِقُ لَهُ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الْمَقْبُوضَ فَيَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْقَرْضُ.
وَفِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمِثْلِ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْفَقِيرِ مَا قَبَضَ فَيَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِلْكُ مِثْلِ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا بِالشَّرْطِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْكَفَالَةِ تَضَمَّنَ طَلَبَ الْقَرْضِ إذَا ذَكَرَ لَفْظَةَ عَنِّي، وَفِي قَضَاءِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ طَلَبُ اتِّهَابٍ؛ وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ عَنِّي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْقَابِضِ.
وَقولهُ (وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ) هُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقول مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يَرْجِعُ كَالْوَكِيلِ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ كَالْمُمَلِّكِ لِمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ كَالْمُقِيمِ لَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ.
وَقُلْنَا: تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَحَيْثُ تَسَاهَلْنَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّشْبِيهُ: أَيْ هُوَ كَالْمُمَلِّكِ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ حُكْمًا لِلْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ لَكِنْ يَتَأَخَّرُ إلَى أَدَائِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي كَفَالَتِهِ بِلَا أَمْرِهِ (لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ) وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِلَا رِضَاهُ وَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ.
وَقولهُ (رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ) فَإِنَّمَا (يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ) حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ زُيُوفًا: فَأَدَّى عَنْهَا جِيَادًا فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِالزُّيُوفِ أَوْ كَانَ الدَّيْنُ جِيَادًا فَأَدَّى عَنْهَا زُيُوفًا وَتَجَوَّزَ الطَّالِبُ بِهَا فَيَرْجِعُ بِالْجِيَادِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى، فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ جِيَادًا فَأَدَّى زُيُوفًا يَرْجِعُ بِالزُّيُوفِ، وَلَوْ كَانَ زُيُوفًا فَأَدَّى جِيَادًا رَجَعَ بِالزُّيُوفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ، وَلَمْ تَدْخُلْ صِفَةُ الْجَوْدَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ زُيُوفًا تَحْتَ الْأَمْرِ.
أَمَّا الْكَفِيلُ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَيَصْبِرُ كَالطَّالِبِ نَفْسَهُ فَيَرْجِعُ بِنَفْسِ الدَّيْنِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ بِالْإِرْثِ بِأَنْ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ فَإِنَّ مَالَهُ عَيْنُهُ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الدَّيْنَ لِلْكَفِيلِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَيُطَالِبُ بِهِ الْمَكْفُولَ بِعَيْنِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ هِبَةُ الدَّيْنِ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَلَيْسَ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ فِي الدَّيْنِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إنَّمَا لَا تَجُوزُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لِلْغَيْرِ فِي قَبْضِهِ، فَأَمَّا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ آخَرَ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَهُنَا لَمَّا أَدَّى الدَّيْنَ فَقَدْ سَلَّطَهُ الطَّالِبُ عَلَى قَبْضِهِ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَذَا قِيلَ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِأَنَّ بِقَبْضِ الطَّالِبِ مِنْ الْكَفِيلِ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ صَارَ مِلْكًا لَهُ شَرْعًا جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يَمْلِكُ التَّسْلِيطَ عَلَى مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ.
وَالْأَوْجَهُ إمَّا اعْتِبَارُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ كَمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا بِأَدَاءِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقوليْنِ، أَوْ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْهِبَةِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ.
وَإِذَا وَهَبَ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ وَبِالْإِبْرَاءِ تَسْقُطُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَقولهُ (وَكَمَا إذَا مَلَكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ) بِالْأَدَاءِ إلَى الْمُحْتَالِ بِأَنْ أَحَالَ الْمَدْيُونُ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَبِلَ الْحَوَالَةَ وَأَدَّى فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُحِيلِ فَيَرْجِعُ بِهِ لَا بِمَا أَدَّى، حَتَّى لَوْ أَدَّى عُرُوضًا أَوْ دَرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالدَّيْنِ كَالْكَفِيلِ، وَكَذَا لَوْ وَهَبَ الْمُحْتَالُ الدَّيْنَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ وَرِثَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحْتَالِ.
وَقولهُ (كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ) أَيْ حَوَالَةِ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى (بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ) فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا (وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ) الْمَكْفُولِ بِهَا (عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى وَهُوَ الْخَمْسُمِائَةِ لَا بِمَا ضَمِنَ وَهُوَ الْأَلْفُ (لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ) أَوْ هُوَ إبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ فَيَسْقُطُ الْبَعْضُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْكَفِيلِ.
وَقولهُ (فَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ) يَعْنِي عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَنْ الْأَلْفِ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ أَوْ الْمَعْنَى إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ عَنْ كُلِّ الدَّيْنِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِ لَا يَرْجِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْبَعْضِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ.
قَالَ: (فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ) وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ) لَهُ أَنْ (يَرْجِعَ) عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ (قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ) فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَسْتَفِيدُ الْمِلْكَ إلَّا مِنْ قِبَلِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْوَكِيلُ كَالْبَائِعِ وَلِذَا كَانَ لَهُ حَبْسُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَلِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَكَذَا الْوَكِيلُ (فَإِنْ لُوزِمَ) الْكَفِيلُ (بِالْمَالِ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ) إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ الرُّجُوعَ (حَتَّى يُخَلِّصَهُ، وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ بَعْدُ.
وَقُلْنَا: مُلَازَمَتُهُ وَحَبْسُهُ مَعَهُ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ وَإِلَّا فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُ بِهِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ (وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ وَبَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِهِ جَائِزٌ (وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الدَّيْنُ حَالَ وُجُودِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ الْأَجَلُ دَاخِلًا فِيهِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ حَقَّهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْأَصِيلِ (فِي الصَّحِيحِ) خِلَافًا لِمَنْ ذَكَرَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ كَذَا قِيلَ.
وَلَيْسَ لِهَذَا الْخِلَافِ أَثَرٌ هُنَا بَلْ الْقَائِلُ: إنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ قَائِلٌ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْكَفِيلِ بِشَرْطِ بَقَاءِ ضَمَانِ الْأَصِيلِ.
وَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْأَصِيلِ أَوْ مَوْتُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ، وَلَوْ رَدَّهُ ارْتَدَّ وَدَيْنُ الطَّالِبِ عَلَى حَالِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَعُودُ إلَى الْكَفِيلِ أَمْ لَا؟ فَبَعْضُهُمْ يَعُودُ وَبَعْضُهُمْ لَا، بِخِلَافِ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ إذَا أَبْرَأَهُ صَحَّ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا.
وَلَوْ كَانَ إبْرَاءُ الْأَصِيلِ أَوْ هِبَتُهُ أَوْ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ قَبِلُوا صَحَّ، وَإِنْ رَدُّوا ارْتَدَّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْإِبْرَاءِ (وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ: لِأَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكَفِيلِ (الْمُطَالَبَةَ) دُونَ الدَّيْنِ (وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الطَّلَبِ (جَائِزٌ) فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ عَدَمُ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ بِإِبْرَائِهِ (وَكَذَا إذَا أَخَّرَ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ) تَأْخِيرٌ عَنْ كَفِيلِهِ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ فَإِنْ قِيلَ:
الْإِبْرَاءُ الْمُؤَبَّدُ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْكَفِيلِ وَالْمُوَقَّتُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ وَبِرَدِّ الْأَصِيلِ يَرْتَدَّانِ كِلَاهُمَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَسَبَبُ الِافْتِرَاقِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ الِارْتِدَادُ بِالرَّدِّ وَعَلَيْهِ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكَفَالَةِ مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ كَإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ فَهُوَ تَأْخِيرُ مُطَالَبَةٍ وَلَيْسَ بِإِسْقَاطٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ تَعُودُ بَعْدَ الْأَجَلِ وَالتَّأْخِيرُ قَابِلٌ لِلْإِبْطَالِ بِخِلَافِ الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْكَفِيلُ التَّأْخِيرَ أَوْ الْأَصِيلُ فَالْمَالُ حَالٌّ يُطَالِبَانِ بِهِ لِلْحَالِ، وَهَذَا (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ) أَيْ بِالدَّيْنِ (الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ) مَثَلًا (فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ) إلَى شَهْرٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَكْفُولَ لَهُ (لَا حَقَّ لَهُ حَالَ الْكَفَالَةِ إلَّا فِي الدَّيْنُ) فَلَيْسَ إذْ ذَاكَ حَتَّى يَقْبَلَ التَّأْجِيلَ سِوَاهُ (فَكَانَ الْأَجَلُ) الَّذِي يَشْتَرِطُهُ الْكَفِيلُ (دَاخِلًا فِيهِ) فَبِالضَّرُورَةِ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ (أَمَّا هَاهُنَا) وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ ثَابِتَةً قَبْلَ التَّأْجِيلِ (فَبِخِلَافِهِ) لِأَنَّهَا تَقَرَّرَ حُكْمُهَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَنَّهُ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ ثُمَّ طَرَأَ التَّأْجِيلُ عَنْ الْكَفِيلِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَهُوَ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهِيَ عَلَى الْأَصِيلِ فَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَمَلَكَهُ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) إنْ شَرَطَ بَرَاءَتَهُمَا جَمِيعًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ أَوْ شَرَطَ بَرَاءَةَ الْمَطْلُوبِ بَرِئَا جَمِيعًا، وَإِنْ شَرَطَ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَالْأَلْفُ بِتَمَامِهَا عَلَى الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَالطَّالِبُ بِخَمْسِمِائَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ الْبَاقِيَ حَيْثُ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِأَلْفٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطَا بَرَاءَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى قولهِ صَالَحْتُك عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ (بَرِئَا جَمِيعًا) عَنْ خَمْسِمِائَةٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهُوَ) أَيْ الدَّيْنُ (عَلَى الْأَصِيلِ) فَيَبْرَأُ الْأَصِيلُ (مِنْ خَمْسِمِائَةٍ) وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي أَوْفَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا (بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحَ بِجِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ) أَيْ الصُّلْحَ بِجِنْسٍ آخَرَ (مُبَادَلَةٌ فَيَمْلِكُهُ) أَيْ الدَّيْنَ (فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي صَالَحَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى هَذَا الْقَدْرَ، وَلَا يُجْعَلُ الصُّلْحُ بِجِنْسِهِ مُبَادَلَةً؛ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ لَا تُجْعَلُ عِوَضًا عَنْ الْأَلْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، وَلَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهَا مِنْ الْكَفِيلِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ وَاجِبَةً فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ تَصْحِيحًا لِلصُّلْحِ مَعَ الْكَفِيلِ حَتَّى تَصِيرَ الْبَرَاءَةُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ مَشْرُوطَةً لِلْكَفِيلِ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى التَّمْلِيكِ، وَفِي خِلَافِ الْجِنْسِ يَحْتَاجُ إلَى التَّمْلِيكِ وَفِي الْجِنْسِ لَا يَحْتَاجُ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْخَمْسِمِائَةِ فَكَانَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ مَشْرُوطَةً لِلْأَصِيلِ فَتَسْقُطُ عَنْهُمَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ (وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكَفَالَةِ الْمُطَالَبَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا مِنْ الْكَفَالَةِ فَيَبْقَى حَالُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْكَفَالَةِ، وَجَعَلَ فِي النِّهَايَةِ صُورَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةٍ عَلَى إبْرَاءِ الْكَفِيلِ خَاصَّةً مِنْ الْبَاقِي رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمِائَةٍ وَرَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ فَسْخٌ لِلْكَفَالَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) مَعْنَاهُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ (وَإِنْ قَالَ أَبْرَأْتُك لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ.
وَلَوْ قَالَ بَرِئْت قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مِثْلُ الثَّانِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَالْإِبْرَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى إذْ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَإِلَيْهِ الْإِيفَاءُ دُونَ الْإِبْرَاءِ.
وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ (قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) بِجَمِيعِ الدَّيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمُتَكَلِّمُ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ هُوَ الْمُنْتَهَى فِي هَذَا التَّرْكِيبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُبْتَدَأٌ وَلَيْسَ إلَّا الْكَفِيلُ الْمُخَاطَبُ فَأَفَادَ التَّرْكِيبُ بَرَاءَةً مِنْ الْمَالِ مُبْتَدَؤُهَا مِنْ الْكَفِيلِ وَمُنْتَهَاهَا صَاحِبُ الدَّيْنِ.
وَهَذَا مَعْنَى الْإِقْرَارِ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ وَبِالْقَبْضِ مِنْ الْكَفِيلِ، كَأَنَّهُ قَالَ دَفَعْت إلَيَّ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ وَالْحَوَالَةُ كَالْكَفَالَةِ فِي هَذَا.
وَهُنَا ثَلَاثَةُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ: قَالَ: أَبْرَأْتُك مِنْ الْمَالِ لَيْسَ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ حَتَّى كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِهِ، وَالثَّالِثَةُ بَرِئْت مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ إلَيَّ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَقولهِ بَرِئْت إلَيَّ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كَقولهِ أَبْرَأْتُك إثْبَاتًا لِلْأَدْنَى وَهُوَ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ إذْ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ.
وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَفَلَ بِهَا فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا كَقولهِ: بَرِئْت إلَيَّ بِقَضِيَّةِ الْعُرْفِ فَإِنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الصَّكَّ يُكْتَبُ عَلَى الطَّالِبِ بِالْبَرَاءَةِ إذَا حَصَلَتْ بِالْإِيفَاءِ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْإِبْرَاءِ لَا يُكْتَبُ الصَّكُّ عَلَيْهِ فَجُعِلَتْ الْكِتَابَةُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ عُرْفًا وَلَا عُرْفَ عِنْدَ الْإِبْرَاءِ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقول هُوَ مِثْلُ بَرِئْت إلَيَّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْكَفِيلُ الْمُخَاطَبُ.
وَحَاصِلُهُ إثْبَاتُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ عَلَى الْخُصُوصِ مِثْلُ قُمْت وَقَعَدْت، وَالْبَرَاءَةُ الْكَائِنَةُ مِنْهُ خَاصَّةً كَالْإِيفَاءِ، بِخِلَافِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إلَى الْكَفِيلِ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الِاحْتِمَالَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَبْرَأَنِي الْمُدَّعِي مِنْ الدَّعْوَى الَّتِي يَدَّعِي عَلَيَّ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ إقْرَارٌ بِالْمَالِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأَنِي مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى تَكُونُ بِحَقٍّ وَبِبَاطِلٍ.
وَلَوْ قَالَ الْكَفِيلُ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ الْمَالِ، فَهُوَ كَقولهِ: أَبْرَأْتُك؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْحِلِّ تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَرَاءَةِ كَالْإِبْرَاءِ دُونَ الْبَرَاءَةِ بِالْقَبْضِ.
قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: هَذَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الْبَيَانِ أَنَّهُ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْمُجْمَلُ فِي الْبَيَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُجْمَلِ هُنَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَمَا يَحْتَمِلُ قولهُ بَرِئْت إلَيَّ مَعْنَى لِأَنِّي أَبْرَأْتُك لَا حَقِيقَةَ الْمُجْمَلِ: يَعْنِي يَرْجِعُ إلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالَاتِ، خُصُوصًا إنْ كَانَ الْعُرْفُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا، مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَقْصِدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَبْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ الْإِبْرَاءَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَكَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ) أَيْ بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ مِثْلُ إنْ عَجَّلْتَ لِي الْبَعْضَ أَوْ دَفَعْتَ الْبَعْضَ فَقَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ الْكَفَالَةِ أَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَارَفِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ فَسَقَطَ سُؤَالُ الْقَائِلِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا قَالَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى أَنِّي إنْ وَافَيْت بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَاهُ بِهِ بَرِئَ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا وُرُودَ لَهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فَهَذَا الْفَرْعُ شَاهِدُ إحْدَاهُمَا (وَيُرْوَى أَنَّهُ يَجُوزُ) وَهُوَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِمَعْنَى التَّمْلِيكِ وَذَاكَ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَطْلُوبِ، أَمَّا الْكَفِيلُ فَالْمُتَحَقَّقُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ (فَكَانَ) إبْرَاؤُهُ (إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مِنْ الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْأَصِيلِ) لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى تَمْلِيكِ الْمَالِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) مَعْنَاهُ بِنَفْسِ الْحَدِّ لَا بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقولهُ (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ) كَنَفْسِ (الْحُدُودِ وَ) نَفْسِ (الْقِصَاصِ) إذْ لَا يُقْتَلُ الْكَفِيلُ بَدَلًا عَنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَلَا يُضْرَبُ وَتَقَدَّمَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنْ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ، لَا بِمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ، وَلَا بِمَا كَانَ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ.
وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَعْيَانَ إمَّا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ أَوْ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَغَيْرُ الْمَضْمُونَةِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْعَارِيَّةِ عِنْدَنَا وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمَضْمُونَةُ إمَّا مَضْمُونَةٌ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ.
وَقَالُوا: رَدُّ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُودَعِ بَلْ الْوَاجِبُ عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُودِعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُهَا، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّ تَسْلِيمَهَا وَاجِبٌ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِتَسْلِيمِهَا، وَكَذَا الْبَاقِي مِنْ الْقِسْمَيْنِ يَصِحُّ بِالتَّسْلِيمِ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بِعَيْنِهِ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، فَإِنْ هَلَكَ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَصِيلِ، بَلْ لَوْ هَلَكَ الْبَيْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ أَوْ الرَّهْنُ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، وَعَلَى مَعْنَى الْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَتَى هَلَكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ، وَفَائِدَتُهُ حِينَئِذٍ إلْزَامُ إحْضَارِ الْعَيْنِ وَتَسْلِيمِهَا، وَلَوْ عَجَزَ بِأَنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ أَوْ الرَّهْنُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ انْفَسَخَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى وِزَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ سَوَاءً.
وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ بَاطِلَةٌ بَاطِلٌ، فَقَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَنَصَّ الْقُدُورِيُّ أَنَّهَا بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ جَائِزَةٌ، وَنَصَّ فِي التُّحْفَةِ عَلَى جَمِيعِ مَا أَوْرَدْنَاهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالتَّسْلِيمِ صَحِيحَةٌ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَبَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَمَا مَعَهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ، إذْ لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ عِنْدَ الطَّلَبِ، فَإِنْ قَالَ: الْوَاجِبُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لَا رَدَّهَا إلَيْهِ فَنَقول: فَلْيَكُنْ مِثْلُ هَذَا الْوَاجِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَهُوَ أَنْ يُحَصِّلَهَا وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْدَ إحْضَارِهِ إلَيْهَا، وَنَحْنُ نَعْنِي بِوُجُوبِ الرَّدِّ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَمِنْ حِمْلِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِ.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْكَفَالَةُ بِتَمْكِينِ الْمُودَعِ مِنْ الْأَخْذِ صَحِيحَةٌ، وَإِمَّا مَضْمُونَةٌ بِنَفْسِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ وَجَبَ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَلَمْ يُقَدِّمْهُ إلَى الْقَاضِي وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَبِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ يَقْضِي الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّ بِالْبَيِّنَةِ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَغْصُوبًا وَالْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ تُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ أَدَاءَ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأَصِيلِ كَذَلِكَ، وَالْقول قول الْكَفِيلِ فِي قِيمَتِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَالْأَصِيلِ: أَعْنِي الْغَاصِبَ، فَإِنْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِأَكْثَرَ لَزِمَهُ الْفَضْلُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: كَفَلَ بِالرَّهْنِ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ لَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ مِنْ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ، وَلَوْ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَا نَقَصَ الرَّهْنُ مِنْ دَيْنِهِ وَكَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ تِسْعَمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ مَثَلًا ضَمِنَ الْكَفِيلُ مِائَةً لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ دَيْنًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَلَوْ اسْتَعَارَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَ الرَّاهِنِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَبْضِ فَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ جَازَ ضَمَانُ الْكَفِيلُ وَأَخَذَ بِهِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ ضَامِنٌ مَالِيَّةَ الْعَيْنِ هُنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَغْصُوبِ، وَلَفْظُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْفَتْحِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ مَتَى هَلَكَ كُلٌّ مِنْ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ وَالْمُسْتَأْجَرِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِهِ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ فَفِي الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ تَقَدَّمَ مَا يُفِيدُ وَجْهَهُ وَفِي الْمُسْتَأْجَرِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِهِ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ رَدُّ الْأُجْرَةِ، وَالْكَفِيلُ مَا كَفَلَ الْأَجْرَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ (وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا) أَيْ آجَرَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ (لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ) الْوَاجِبِ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّابَّةِ لِيَحْمِلَهُ عَلَيْهَا (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ) أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَسْتَأْجِرُهَا (وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ) وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْكَفِيلِ فَصَحَّتْ كَفَالَتُهُ بِهِ (وَوَازَنَهُ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ إذْ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ، أَمَّا لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ.
وَقَالَ شَارِحٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَسْلِيمُ الدَّابَّةِ لَا الْحَمْلِ، فَالْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةٌ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا تَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْحَمْلُ وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ انْتَهَى.
وَاعْتَرَضَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ إنْ كَانَ لَيْسَ إلَّا تَسْلِيمَ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِسَبَبِ أَنَّ تَحْمِيلَهُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَمْلُ الدَّابَّةِ فَكَذَلِكَ إجَارَةُ حَمْلِهِ عَلَى دَابَّةٍ إلَى مَكَانِ كَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى تَسْلِيمِ أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتْ إذْ لَا يَجِبُ تَحْمِيلُهُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْ الرَّجُلَ نَفْسَهُ فَلَا فَرْقَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْكَفَالَةُ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَمْلَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ بِعَيْنِ مَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ تَسْلِيمَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ صَحِيحَةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ كَوْنُ الْمُسْتَأْجَرِ مِلْكًا لِغَيْرِ الْكَفِيلِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْمِيلُ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَسْلِيمِهَا بَلْ الْمَجْمُوعُ مِنْ تَسْلِيمِهَا وَالْإِذْنُ فِي تَحْمِيلِهَا وَهُوَ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ التَّرْكِيبِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَفِي الْمُعَيَّنَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِذْنِ فِي تَحْمِيلِهَا إذْ لَيْسَتْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهَا لِيَصِحَّ إذْنُهُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ عِنْدَ تَسْلِيمِ دَابَّةِ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّةٍ اسْتَأْجَرَهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا: يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ أَجَازَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا.
لَهُ أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ، وَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ.
وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ شَطْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَقول الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ جَازَ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ كَفَالَةِ الْأَصْلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (الْإِجَازَةَ) بَلْ إنَّهُ نَافِذٌ إنْ كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ غَائِبًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ عَنْهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ (وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا) وَجْهُ رِوَايَةِ النَّفَاذِ (أَنَّهُ الْتِزَامٌ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ) وَلَا يَتَعَدَّى لَهُ ضَرَرٌ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا مَلْزُومٌ، فَإِنْ رَأَى مُطَالَبَتَهُ طَالَبَهُ وَإِلَّا لَا.
وَأَحَالَ الْمُصَنِّفُ وَجْهَ التَّوَقُّفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ أَنَّ شَطْرَ الْعَقْدِ يَتَوَقَّفُ حَتَّى إذَا عَقَدَ فُضُولِيٌّ لِامْرَأَةٍ عَلَى آخَرَ تَوَقَّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا إذَا كَانَ عَقْدًا تَامًّا بِأَنْ خَاطَبَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا إنْ خَاطَبَهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَهُمَا إلَّا الْعَقْدُ التَّامُّ (وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ) مِنْ الْمُوجِبِ وَحْدَهُ (شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَمَّ عَقْدًا بِقَبُولِ فُضُولِيٍّ آخَرَ تَوَقَّفَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمَا.
قَالُوا: إذَا قَبِلَ عَنْهُ قَابِلٌ تَوَقَّفَ بِالْإِجْمَاعِ، وَحِينَئِذٍ قولهُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَقْبَلَ فِي الْمَجْلِسِ إنْ كَانَ حَاضِرًا فَتَنْفُذُ، أَوْ يَقْبَلَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ إنْ كَانَ غَائِبًا فَتَتَوَقَّفُ إلَى إجَازَتِهِ أَوْ رَدٍّ، وَقولهُ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قولهِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَحَّتْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا قَبُولِ فُضُولِيٍّ عَنْهُ (وَهِيَ أَنْ يَقول الْمَرِيضُ) الْمَدْيُونُ (لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ) عَنْهُ (بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا فَلِلْغُرَمَاءِ مُطَالَبَتُهُ.
وَذَكَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قولهُ تَكَفَّلْ عَنِّي وَصِيَّةٌ: أَيْ فِيهِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، إذْ لَوْ كَانَتْ حَقِيقَةَ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ لَهُمْ اقْضُوا دُيُونِي فَقَالُوا نَعَمْ إذَا قَالُوا تَكَفَّلْنَا بِهَا، فَلِذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: إنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا تُؤْخَذُ الْوَرَثَةُ بِدُيُونِهِ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةَ الْكَفَالَةِ لَأُخِذُوا بِهَا حَيْثُ تَكَفَّلُوا.
ثَانِيهمَا: مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَا بِذِمَّتِهِ لِضَعْفِهَا بِمَرَضِ الْمَوْتِ وَلِذَا امْتَنَعَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ وَاخْتَارَ، فَنَزَلَ نَائِبًا عَنْ الْغُرَمَاءِ الْمَكْفُولِ لَهُمْ عَامِلًا لَهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ الْمَكْفُولِ لَهُ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ كَالطَّالِبِ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ فَإِنَّ الصَّادِرَ مِنْهُ حِينَئِذٍ قولهُ: تَكَفَّلْ، وَلَوْ قَالَ تَكَفَّلْ لِي بِمَا لِي عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ كَفَلْت لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَقول بَعْدَ ذَلِكَ قَبِلْت أَوْ نَحْوَهُ، كَالْبَيْعِ إذَا قَالَ بِعْنِي بِكَذَا فَقَالَ بِعْت لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقول الْآمِرُ قَبِلْت.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (إنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ) بَعْدَ قول الْوَارِثِ تَكَفَّلْت (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ قولهُ تَكَفَّلْت (لَا يُرَادُ بِهِ الْمُسَاوَمَةُ) وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُسَاوَمَةُ وَهُنَا لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا التَّحْقِيقُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قَصْدِهِ إلَى تَحْقِيقِ الْكَفَالَةِ لِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ لَا عَلَى الْمُسَاوَمَةِ بِهَا (فَصَارَ) الْأَمْرُ هُنَا (كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ) فِيمَا لَوْ قَالَ زَوِّجْنِي بِنْتَك فَقَالَ زَوَّجْتُكَهَا انْعَقَدَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَبِلْت حَيْثُ كَانَ النِّكَاحُ لَا تَجْرِي فِيهِ الْمُسَاوَمَةُ (وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ) فَضَمِنَ (اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ) مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ بِلَا الْتِزَامٍ فَكَانَ الْمَرِيضُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَالصَّحِيحُ سَوَاءً، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ الطَّالِبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَيَنْزِلُ الْمَرِيضُ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ لِتَضْيِيقِ الْحَالِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَارِثِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَمَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قولهِ وَهَذَا مِنْ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الدَّيْنَ وَلَا صَاحِبَ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لِوَرَثَتِهِ بِأَنْ يَقْضُوا دَيْنَهُ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَرْجَحِ وَهُوَ أَنَّهَا كَفَالَةٌ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ هِيَ كَفَالَةٌ، وَجَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ وَهُوَ الدَّيْنُ لَا تَضُرُّ فِي الْكَفَالَةِ، وَقَدْ فَرَضَ أَنَّ الْمَرِيضَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَكُنْ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولًا حُكْمًا لِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَكَفَّلَ عَنْهُ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: تَصِحُّ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ وَلِهَذَا يَبْقَى فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ يَصِحُّ، وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ مَالٌ.
وَلَهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ.
لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ مَالٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ فَفَاتَ عَاقِبَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَخَلَفَهُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا) بَلْ مَاتَ مُفْلِسًا (فَتَكَفَّلَ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ بِمَا عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ (تَصِحُّ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ) لِعُمُومِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةِ أَنْصَارِيٍّ فَقَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ وَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ فَصَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الدَّيْنَ (وَجَبَ) فِي حَيَاتِهِ (لِحَقِّ الطَّالِبِ) وَهُوَ بَاقٍ (وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ) وَهُوَ الْأَدَاءُ أَوْ الْإِبْرَاءُ أَوْ انْفِسَاخُ سَبَبِ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِالْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ كَوْنُهُ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَ) أَنَّهُ (لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ جَازَ) أَخْذُ الطَّالِبِ مِنْهُ وَلَوْ سَقَطَ بِالْمَوْتِ مَا حَلَّ لَهُ أَخْذُهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ، وَلَوْ بَطَلَ الدَّيْنُ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ لِسُقُوطِهِ عَنْ الْكَفِيلِ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْأَصِيلِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ) فِي حُكْمِ الدُّنْيَا لَا مُطْلَقًا، وَالْكَفَالَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تُوَثَّقُ لِيَأْخُذَهُ فِيهَا لَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهَا وُجُودٌ بِلَا دَيْنٍ كَذَلِكَ، (وَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِعْلٌ حَقِيقَةً وَلِذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ) وَالْمَوْصُوفُ بِالْأَحْكَامِ الْأَفْعَالُ (وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ) هُوَ الْكَفِيلُ الْكَائِنُ قَبْلَ سُقُوطِهِ فَسَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ضَرُورَةً (وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ) وَلَوْ كَانَ بِقَيْدِ الْإِضَافَةِ: أَيْ التَّبَرُّعُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ الْحَقُّ فَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ قِيَامُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَهُ، وَالْكَفَالَةُ نِسْبَةٌ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ الْمَكْفُولِ لَهُ وَالْأَصِيلِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا عَلَى الْأَصِيلِ لِلْمَكْفُولِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ لَمْ يَعْجِزْ بِخَلَفِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا كَفَالَةٌ بَعْدَ السُّقُوطِ (وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَالْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ) فَلَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ فَصَحَّتْ كَفَالَتُهُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمَلِيءِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَلَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ إنْشَاءِ الْكَفَالَةِ بَلْ يَحْتَمِلُ قولهُ هُمَا عَلَيَّ كُلًّا مِنْ إنْشَائِهَا وَالْإِخْبَارِ بِهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَلَا عُمُومَ لِوَاقِعَةِ الْحَالِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي خُصُوصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَيُحْتَمَلُ الْوَعْدُ بِهَا وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَامْتِنَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ طَرِيقُ إيفَائِهِمَا لَا بِقَيْدِ طَرِيقِ الْكَفَالَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ بِوَعْدِهَا أَوْ بِالْإِقْرَارِ بِالْكَفَالَةِ بِهِمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
وَنُوقِضَ إثْبَاتُ سُقُوطِ الدَّيْنِ بِمَسَائِلَ: أَحَدُهَا لَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا قَبْلَ أَدَائِهِ الثَّمَنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَلَوْ سَقَطَ الثَّمَنُ بَطَلَ، وَلَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ فِي نَفْسِهِ فَعُلِمَ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّنْيَا لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَلَوْ سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لَمْ تَبْقَ الْكَفَالَةُ.
ثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ بَقِيَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وَبَقَاءُ الرَّهْنِ إنَّمَا يَكُونُ بِبَقَاءِ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ تَعَذُّرَ الْمُطَالَبَةِ لِمَعْنًى لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّيْنِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَكَفَلَ عَنْهُ بِهِ كَفِيلٌ صَحَّ وَإِنْ كَانَ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ فَكَذَا فِي حَالِ الْمَوْتِ.
أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ حَتَّى جَازَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ وَالْكَفَالَةُ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ سَقَطَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْمَحَلِّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ كَسَادَ الْفُلُوسِ يُبْطِلُ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ انْتَقَضَ الْعَقْدُ وَهُنَا الدَّيْنُ بَاقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ السَّابِقِ كَفَالَتُهُ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ ذِمَّتُهُ بِالْمَوْتِ وَمِثْلُهُ الرَّهْنُ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَتَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ لِحَقِّ الْمَوْلَى كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُطَالَبُ بِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، كَمَنْ عَجَّلَ زَكَاتَهُ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ (وَإِنْ رَبِحَ الْكَفِيلُ فِيهِ فَهُوَ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ، أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ أُخِّرَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ يَصِحُّ، فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ نُبَيِّنُهُ فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ) أَيْ قَضَى الرَّجُلَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ الْكَفِيلُ (الْأَلْفَ) الَّتِي كَفَلَ بِهَا (قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ (صَاحِبَ الْمَالِ) وَذِكْرُ ضَمِيرِ يُعْطِيَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَالِ أَوْ الْمَكْفُولِ بِهِ لَازِمٌ مِنْ قولهِ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ وَصَاحِبُ الْمَالِ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِيُعْطِيَ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ ضَمِيرُ الْمَالِ الْمُقَدَّمُ فِي يُعْطِيَهُ (فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لَيْسَ لِلرَّجُلِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ (أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْأَصِيلُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَأَنَّ الْأَمَانَةَ مَا إذَا كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْكَفِيلِ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ إلَى الطَّالِبِ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ) إلْحَاقًا بِالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لِلسَّاعِي تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْدَادُهُ شَرْعًا مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ (وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ) أَيْ الْقَابِضَ (مَلَكَهُ) بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ سَطْرٍ فِي تَعْلِيلِ طَيِّبِ الرِّبْحِ لِلْكَفِيلِ لَوْ عَمِلَ فِيهِ فَرَبِحَ وَهُوَ قولهُ (لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ. أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا لَوْ قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ) الدَّيْنَ وَلَمْ يَقْضِ الْكَفِيلُ (وَثَبَتَ) لِلْمَطْلُوبِ (الِاسْتِرْدَادُ) بِمَا دَفَعَ لِلْكَفِيلِ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ مِلْكِهِ إذَا قَضَى الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (وَجَبَ لَهُ) بِمُجَرَّدِ الْكَفَالَةِ (عَلَى الْأَصِيلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ) عَلَى الْكَفِيلِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ (إلَّا) أَيْ لَكِنْ (أُخِّرَتْ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ إلَى أَدَائِهِ فَنَزَلَ) مَا لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ (بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ) وَلَوْ عَجَّلَ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ مَلَكَهُ الدَّائِنُ بِقَبْضِهِ فَكَذَا هَذَا (وَلِهَذَا) أَيْ وَالدَّلِيلُ أَنَّ لِلْكَفِيلِ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ مُتَأَخِّرًا أَنَّهُ (لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ قَبْلَ أَدَائِهِ) أَيْ قَبْلَ أَدَاءِ الْكَفِيلِ (يَصِحُّ) حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَدَّى وَجَازَ أَخْذُ الْكَفِيلِ مِنْ الْأَصِيلِ رَهْنًا بِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ (فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ) يَعْنِي إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ كَانَ بِحَيْثُ يَمْلِكُهُ إذَا قَبَضَهُ، وَإِذَا مَلَكَهُ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ (إلَّا) أَيْ لَكِنْ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ (فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ) عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ (نُبَيِّنُهُ) عَنْ قَرِيبٍ (فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَنْ لَا يَتَعَيَّنُ) وَهُوَ الْأَلْفُ الَّتِي قَضَاهُ إيَّاهَا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ (وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ) فِي آخِرِ فَصْلٍ فِي أَحْكَامِهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَبَضَهَا الْكَفِيلُ فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْحُكْمِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ (قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ لَهُ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.
لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَيُسَلِّمُ لَهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ، إمَّا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقْضِيَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ) فَدَفَعَهُ الْأَصِيلُ إلَى الْكَفِيلِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ (فَالرِّبْحُ لَهُ) أَيْ الْكَفِيلِ (لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ) أَيْ مَلَكَ الْكُرَّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَهُ فِي ضِمْنِ بَيَانِ أَنَّهُ مَلَكَ الْمَقْبُوضَ (قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ ضَمِيرَ قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ.
فَقولهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيُمَهِّدَ لِنَصْبِ الْخِلَافِ بِذِكْرِ قولهِمَا حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِفَاعِلِ قَالَ: (وَقَالَا: هُوَ لَهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ) أُخْرَى (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصْلِ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رِوَايَةٌ) ثَالِثَةٌ (أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ) وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْكَفَالَةِ مِنْهُ (لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ) فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ مِنْ أَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ إلَخْ (فَيُسَلِّمُ لَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثَ مَعَ الْمِلْكِ، إمَّا) لِقُصُورِ مِلْكِهِ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَصِيلَ (بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ بِأَنْ يَقْضِيَ) هُوَ الطَّالِبُ فَيَنْتَقِضُ مِلْكُ الْكَفِيلِ فِيمَا قَبَضَ (أَوْ لِأَنَّهُ) إنَّمَا بِمِلْكٍ (رَضِيَ بِهِ) أَيْ بِمِلْكِ الْكَفِيلِ فِيهِ (عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ) وَالْوَجْهُ أَنْ يَعْطِفَ بِالْوَاوِ فَإِنَّهُمَا وَجْهَانِ لَا أَنَّ الْوَجْهَ أَحَدُهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ، وَهُوَ قُصُورُ الْمِلْكِ بِسَبَبِ ثُبُوتِ تِلْكَ الْخُبْثِيَّةِ وَعَدَمِ رِضَا الْأَصِيلِ بِمِلْكِ الْكَفِيلِ بِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ إلَّا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَهُوَ مُنْتَفٍ (وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ) وَهُوَ الْكُرُّ لَا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ كَالْأَلْفِ مَثَلًا (فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ) أُخْرَى (وَهِيَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَ الْأَصِيلَ) لَا لَحِقَ الشَّرْعَ فَيَرُدُّهُ إلَيْهِ لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ (لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ) وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَوْجَهُ طِيبُهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْحَقَّ لَهُ (إلَّا أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ) لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْكَفِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَابَلَةُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْحُكْمِ فَقَالَ أَوَّلًا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَا يَجِبُ فِي الْحُكْمِ: أَيْ فِي الْقَضَاءِ.
وَثَانِيًا لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ: يَعْنِي لَا يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْبَابِ مَا يُقَابِلُ جَبْرَ الْقَاضِي يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي وَلَكِنْ يَفْعَلُهُ هُوَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَبْرِ الْقَاضِي عَدَمُ الْوُجُوبِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ عَدَمُ جَبْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْقَضَاءِ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَيْهِ، وَالْعِبَارَةُ الْمَنْقولةُ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي وَجْهِ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ.
قَالَ: وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْكَفِيلُ مَمْلُوكٌ لَهُ مِلْكًا فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّ لِلْأَصِيلِ اسْتِرْدَادَهُ حَالَ قِيَامِ الْكَفَالَةِ بِقَضَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَاسْتِرْدَادُ الْمَقْبُوضِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ حُكْمُ مِلْكٍ فَاسِدٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: حَالَ قِيَامِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِأَدَاءِ الْأَصِيلِ وَلَكِنْ تَنْتَهِي كَمَا لَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِلْكًا فَاسِدًا وَرَبِحَ فِيهِ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ أَوْ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْخُبْثَ كَانَ لَحِقَهُ فَيَزُولُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، كَالْغَاصِبِ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ رَدَّهُ فَإِنَّ الْأَجْرَ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يَرُدُّهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَكَذَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ صَحِيحًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ وَلَا رَدُّهُ، فَإِذَا فَسَدَ مِنْ وَجْهٍ وَصَحَّ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ التَّصَدُّقُ أَوْ الرَّدُّ عَلَى الْأَصِيلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ظَاهِرَةً فِي وُجُوبِ رَدِّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ تَرَجَّحَ الرَّدُّ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَعْطَاهُ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، فَلَوْ أَعْطَاهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ إلَى الطَّالِبِ فَتَصَرَّفَ وَرَبِحَ صَارَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ وَطَابَ لَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا عُرِفَ فِيمَنْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ مَالًا وَرَبِحَ فِيهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ فِي قولهِمَا لِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ وَيَطِيبُ لَهُ فِي قول أَبِي يُوسُفَ مُسْتَدِلًّا بِحَدِيثِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ الْأَصِيلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا فَفَعَلَ فَالشِّرَاءُ لِلْكَفِيلِ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَيْهِ) وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِبَيْعِ الْعِينَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعَ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً؛ سُمِّيَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِمَذْمُومِ الْبُخْلِ.
ثُمَّ قِيلَ: هَذَا ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قولهِ عَلَيَّ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَكَذَا الثَّمَنُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِجَهَالَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ: أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ) أَيْ فَأَمَرَ الْكَفِيلُ (الْأَصِيلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا) أَيْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حَرِيرًا بِطَرِيقِ الْعِينَةِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حَرِيرًا بِثَمَنٍ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ لِيَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ الْبَائِعِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ الْبَائِعُ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ بِالْأَقَلِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ وَيَدْفَعَ ذَلِكَ الْأَقَلَّ إلَى بَائِعِهِ فَيَدْفَعَهُ بَائِعُهُ إلَى الْمُشْتَرِي الْمَدْيُونِ فَيُسَلِّمَ الثَّوْبَ لِلْبَائِعِ كَمَا كَانَ وَيَسْتَفِيدَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ الْأَقَلِّ، وَإِنَّمَا وَسَّطَا الثَّانِيَ تَحَرُّزًا عَنْ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِأَنْ يَسْتَقْرِضَ فَيَأْبَى الْمُقْرِضُ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ عَيْنًا تُسَاوِيَ عَشَرَةً مَثَلًا فِي السُّوقِ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَيَفْعَلَ فَيَرْبَحَ الْبَائِعُ دِرْهَمَيْنِ رَغْبَةً عَنْ الْقَرْضِ الْمَنْدُوبُ إلَى الْبُخْلِ وَتَحْصِيلِ غَرَضِهِ مِنْ الرِّبَا بِطَرِيقِ الْمُوَاضَعَةِ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ هُنَا، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قولهِ تَعَيَّنَ عَلَيَّ حَرِيرٌ اذْهَبْ فَاسْتَقْرِضْ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُقْرِضَك فَاشْتَرِ مِنْهُ الْحَرِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، بَلْ الْمَقْصُودُ اذْهَبْ فَاشْتَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذَا فَعَلَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَالْمِلْكُ لَهُ فِي الْحَرِيرِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي يَخْسَرُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ حَاصِلُهَا (ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قولهِ عَلَيَّ) كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَمَا خَسِرَ فَعَلَيَّ، وَضَمَانُ الْخُسْرَانِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَضْمُونٍ وَالْخُسْرَانُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ بَايِعْ فِي السُّوقِ عَلَى أَنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ يَلْحَقُك فَعَلَيَّ أَوْ قَالَ لِمُشْتَرِي الْعَبْدِ إنْ أَبَقَ عَبْدُك هَذَا فَعَلَيَّ لَا يَصِحُّ (وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ) وَمَعْنَى عَلَيَّ مُنْصَرِفٌ إلَى الثَّمَنِ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ يَكُونُ الْبَيْعُ لَهُ فَأَغْنَى عَنْ قولهِ لِي فَهُوَ تَوْكِيلٌ لَكِنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِقْدَارُهُ وَلَا ثَمَنُهُ فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِنْطَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَهَا وَلَا ثَمَنَهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَدْرُ مَا يَقَعُ بِهِ الْإِيفَاءُ كَانَ الْحَاصِلُ اشْتَرِ لِي حَرِيرًا لِيَكُونَ ثَمَنُهُ الَّذِي تَبِيعُهُ بِهِ فِي السُّوقِ قَدْرَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْنَا وَهُوَ لَا يُعَيِّنُ قَدْرَ ثَمَنِ الْحَرِيرِ الْمُوَكَّلِ بِشِرَائِهِ بَلْ مَا يُبَاعُ بِهِ بَعْدَ شِرَائِهِ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْإِيفَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ (وَكَيْفَمَا) كَانَ تَوْكِيلًا فَاسِدًا أَوْ ضَمَانًا بَاطِلًا (يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ أَيْ الزِّيَادَةُ) الَّتِي يَخْسَرُهَا (عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ) وَمِنْ صُوَرِ الْعِينَةِ أَنْ يُقْرِضَهُ مَثَلًا خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ يَبِيعَهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشْرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَيَأْخُذَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْقَرْضَ مِنْهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إلَّا عَشْرَةٌ وَثَبَتَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْعَثَ مُتَوَسِّطًا يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِأَلْفٍ حَالَّةً وَيَقْبِضَهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِأَلْفٍ ثُمَّ يُحِيلَ الْمُتَوَسِّطُ بَائِعَهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ حَالَّةً فَيَدْفَعَهَا إلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ عِنْدَ الْحُلُولِ.
قَالُوا: وَهَذَا الْبَيْعُ مَكْرُوهٌ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَتَبِعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» وَالْمُرَادُ بِاتِّبَاعِ أَذْنَابِ الْبَقَرِ الْحَرْثُ لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَتْرُكُونَ الْجِهَادَ وَتَأْلَفُ النَّفْسُ الْجُبْنَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ هَذَا الْبَيْعُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَحَمِدُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ الرِّبَا، حَتَّى لَوْ بَاعَ كَاغِدَةً بِأَلْفٍ يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْبَيْعُ فِي قَلْبِي كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ ذَمِيمٌ اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا، وَقَدْ ذَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» أَيْ اشْتَغَلْتُمْ بِالْحَرْثِ عَنْ الْجِهَادِ وَفِي رِوَايَةٍ «سَلَّطَ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» وَقِيلَ: إيَّاكَ وَالْعِينَةَ فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ.
ثُمَّ ذَمُّوا الْبِيَاعَاتِ الْكَائِنَاتِ الْآنَ أَشَدَّ مِنْ بَيْعِ الْعِينَةِ، حَتَّى قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بِبَلْخٍ لِلتُّجَّارِ: إنَّ الْعِينَةَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ بِيَاعَاتِكُمْ، وَهُوَ صَحِيحٌ، فَكَثِيرٌ مِنْ الْبِيَاعَاتِ كَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالشَّيْرَجُ وَغَيْرِ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ الْحَالُ فِيهَا عَلَى وَزْنِهَا مَظْرُوفَةً ثُمَّ إسْقَاطُ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الظَّرْفِ وَبِهِ يَصِيرُ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بِحُكْمِ الْغَصْبِ الْمُحَرَّمِ فَأَيْنَ هُوَ مِنْ بَيْعِ الْعِينَةِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَلَفِ فِي كَرَاهَتِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِي أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الدَّافِعُ إنْ فُعِلَتْ صُورَةٌ يَعُودُ فِيهَا إلَيْهِ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ كَعَوْدِ الثَّوْبِ أَوْ الْحَرِيرِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَكَعَوْدِ الْعَشَرَةِ فِي صُورَةِ إقْرَاضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَمَكْرُوهٌ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ إلَّا خِلَافُ الْأُولَى عَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ كَأَنْ يَحْتَاجَ الْمَدْيُونُ فَيَأْبَى الْمَسْئُولُ أَنْ يُقْرِضَ بَلْ أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ إلَى أَجَلٍ فَيَشْتَرِيَهُ الْمَدْيُونُ وَيَبِيعَهُ فِي السُّوقِ بِعَشَرَةٍ حَالَّةٍ، وَلَا بَأْسَ فِي هَذَا فَإِنَّ الْأَجَلَ قَابَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقَرْضُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ دَائِمًا بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ بِمُجَرَّدِ رَغْبَةٍ عَنْهُ إلَى زِيَادَةِ الدُّنْيَا فَمَكْرُوهٌ أَوْ لِعَارِضٍ يُعْذَرُ بِهِ فَلَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَوَادِّ وَمَا لَمْ تَرْجِعْ إلَيْهِ الْعَيْنُ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ لَا يُسَمَّى بَيْعَ الْعِينَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَيْنِ الْمُسْتَرْجَعَةِ لَا الْعَيْنِ مُطْلَقًا وَإِلَّا فَكُلُّ بَيْعٍ بَيْعُ الْعِينَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ وَهُوَ بِالْقَضَاءِ أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَأْنَفُ كَقولهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ) رَجُلٌ (بَيِّنَةً عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَقْبَلُ) الْقَاضِي هَذِهِ الْبَيِّنَةَ وَلَا يَقْضِي بِهَا لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ لَمْ يُنْتَصَبْ عَنْهُ خَصْمٌ، إذْ الْكَفِيلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ مَقْضِيٍّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ كَقولهِمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ الذَّوْبَ شَرْطًا وَالشَّرْطُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الذَّوْبُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا (وَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ) وَالْبَيِّنَةُ لَمْ تَشْهَدْ بِقَضَاءِ مَالٍ وَجَبَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ كَفِيلًا عَنْ الْغَائِبِ بَلْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ إذْ لَا يُنْتَصَبُ خَصْمًا (وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى) وَهِيَ لَفْظَةُ ذَابَ (لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ) وَوَجَبَ (وَهُوَ بِالْقَضَاءِ) بَعْدَ الْكَفَالَةِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى أَنِّي قَدَّمْت الْغَائِبَ إلَى قَاضِي كَذَا وَأَقَمْت عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِكَذَا بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَقَضَى لِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ صَارَ كَفِيلًا، وَصَحَّتْ الدَّعْوَى وَقَضَى عَلَى الْكَفِيلِ بِالْمَالِ لِصَيْرُورَتِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً.
وَقَدَّمْنَا مِنْ مَسَائِلِ الذَّوْبِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ ضَمِنَ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ أَوْ دَايَنَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ فَغَابَ الْمَطْلُوبُ فَيَرْهَنُ الطَّالِبُ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِ وَقَدْ دَايَنَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ بَعْدَهُ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ قَضَى عَلَى الْكَفِيلِ وَالْغَائِبِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الضَّمَانَ مُقَيَّدٌ بِصِفَةٍ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَيُنْتَصَبُ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْهُ فَيَقَعُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يُقْضَى عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً) وَإِنَّمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ، فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ لِأَنَّهُ تَعْتَمِدُ صِحَّتُهَا قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَقول صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ) صُورَتُهَا فِي الْجَامِعِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَجَاءَ الطَّالِبُ بِالْكَفِيلِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفَلَ لَهُ بِأَمْرِ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ فَإِنِّي أَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ بِالْمَالِ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْغَائِبِ قَضَيْت بِالْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَمْ يَكُنْ الْكَفِيلُ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ انْتَهَى.
يَعْنِي فَلَا يَقَعُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنَّمَا خَصَّ قولهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا لَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا.
(وَإِنَّمَا قُبِلَتْ) هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَمْ تُقْبَلْ فِيمَا قَبْلَهَا (لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ) هُنَا (مَالٌ مُطْلَقٌ) وَدَعْوَى الْمُدَّعِي مُطْلَقَةٌ أَيْضًا فَصَحَّتْ فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا بِنَاءٌ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى (بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ هُنَاكَ مَالٌ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ وُجُوبِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِخُصُوصِ كَمِّيَّةٍ وَلَمْ يُطَابِقْهَا دَعْوَى لِلْمُدَّعِي وَلَا الْبَيِّنَةُ (وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ) الْقَضَاءُ (بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ) حَتَّى يَقَعَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا فِي الْأَمْرِ فَيَرْجِعَ الْكَفِيلُ، وَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِهِ وَعَلَى الْكَفِيلِ وَحْدَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ فَلَا يَرْجِعُ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ وَبِغَيْرِ الْأَمْرِ (يَتَغَايَرَانِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ الْأَمْرِ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ فَدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا) وَهُوَ مُجَرَّدُ التَّبَرُّعِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً (لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ) وَهُوَ الْمُعَاوَضَةُ لِيَثْبُتَ لَهُ الرُّجُوعُ وَيَكُونَ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ (وَإِذَا قُضِيَ بِهَا) أَيْ بِالْبَيِّنَةِ (بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ) أَيْ أَمْرُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ.
(وَأَمْرُهُ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَ الْأَصِيلِ بِالْمَالِ) إذْ لَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ إلَّا وَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ عَلَيْهِ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ دَيْنًا (فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) فَإِنَّهَا (لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ) أَيْ جَانِبَ الْأَصِيلِ (لِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ) بِلَا أَمْرِ الْمَكْفُولِ (إنَّمَا تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ) إذْ زَعْمُهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ (ثُمَّ فِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ) حَيْثُ ثَبَتَ الْأَمْرُ (وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ) وَهُوَ الْأَصِيلُ (وَنَحْنُ نَقول) قَدْ (صَارَ) الْكَفِيلُ فِي إنْكَارِهِ الدَّيْنَ عَلَى الْأَصِيلِ (مُكَذَّبًا شَرْعًا) بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِهِ (فَيَبْطُلُ زَعْمُهُ) فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ، وَهَذَا كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ الْبَائِعَ ظَلَمَ.
وَاسْتَشْكَلَ عَلَيْهِ قول مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ إنْكَارِهِ الْعَيْبَ؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَلَمْ يَبْطُلْ زَعْمُهُ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَرُدُّ لِأَنَّ قولهُ لَا عَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ لِلْعَيْبِ فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي، وَالْقَاضِي إنَّمَا كَذَّبَهُ فِي قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَيْسَ شَرْطًا لِلرَّدِّ عَلَى الثَّانِي.
وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَقَالَ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً نَحْوُ أَنْ يَقول: كَفَلْت بِمَالِك عَلَى فُلَانٍ، أَوْ مُقَيَّدَةً نَحْوُ أَنْ يَقول كَفَلْت لَك عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَالْقَضَاءُ عَلَى الْكَفِيلِ قَضَاءٌ عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الْكَفِيلِ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقول قول الْكَفِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ حَقًّا لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِإِثْبَاتِهِ عَلَى الْغَائِبِ.
قَالَ مَشَايِخُنَا: وَهَذَا طَرِيقُ مَنْ أَرَادَ إثْبَاتَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْكَفِيلِ اتِّصَالٌ، وَكَذَا إذَا خَافَ الطَّالِبُ مَوْتَ الشَّاهِدِ بِتَوَاضُعٍ مَعَ رَجُلٍ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ مِثْلَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ فَيُقِرُّ الرَّجُلُ بِالْكَفَالَةِ وَيُنْكِرُ الدَّيْنَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الدَّيْنِ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ ثُمَّ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَكَذَا الْحَوَالَةُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ ادَّعَى حَقًّا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ يَكُونُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ؛ كَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا فَادَّعَى الْمَقْذُوفُ الْحَدَّ فَقَالَ الْقَاذِفُ: قَذَفْته وَهُوَ عَبْدٌ فَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لِفُلَانٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ قُضِيَ بِعِتْقِهِ عَلَى فُلَانٍ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَقًّا وَهُوَ الْحَدُّ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعِتْقِ فَصَارَ الْقَاذِفُ خَصْمًا عَنْ فُلَانٍ سَيِّدِ الْعَبْدِ الْغَائِبِ وَيَثْبُتُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ رَجُلٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: أَنَا ضَامِنٌ لِدَيْنِك إنْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَقَامَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بَيِّنَةً أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَقَضَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ اسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُولِهِ، ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ.
قَالَ: (وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَرَّةً يُوجَدُ مِنْ الْمَالِكِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، قَالُوا: إذَا كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا وَهُوَ كَتَبَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَهُوَ تَسْلِيمٌ، إلَّا إذَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ دَارًا فَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ هُوَ قَبُولُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، وَقولهُ تَسْلِيمٌ: أَيْ تَصْدِيقٌ مِنْ الْكَفِيلِ أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَلَوْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، إذْ لَوْ صَحَّتْ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْكَفِيلِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَلَا يُفِيدُ.
وَأَيْضًا (فَالْكَفَالَةُ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ) بِأَنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَكْفُلَ لَهُ (فَتَمَامُ الْبَيْعِ بِقَبُولِهِ) أَيْ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ (ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ) وَلِهَذَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لَوْ كَانَ الْكَفِيلُ شَفِيعًا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (مَشْرُوطًا فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ إلَّا بِالْكَفَالَةِ) تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ (فَيَنْزِلُ) عَقْدُ الْكَفَالَةِ (مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ) وَإِلَّا كَانَ تَغْرِيرًا فَلَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ إيَّاهُ أَصْلًا بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا إذَا كَفَلَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكْفُلْ وَلَكِنْ شَهِدَ عَلَى الْبَيْعِ ثُمَّ ادَّعَاهَا بَعْدَ شَهَادَتِهِ إنْ كَانَ رَسْمٌ مَكْتُوبًا عَلَى الصَّكِّ وَفِي الصَّكِّ مَا يُفِيدُ الِاعْتِرَافَ بِمِلْكِ الْبَائِعِ مِثْلُ بَاعَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ جَمِيعَ الدَّارِ الْجَارِيَةِ فِي مِلْكِهِ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ أَوْ كَتَبَ جَرَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ جَمِيعَ الدَّارِ أَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ بِحَضْرَتِي وَالشِّرَاءِ ثُمَّ كَتَبَ شَهِدْت بِذَلِكَ أَوْ كَتَبَ جَرَى ذَلِكَ لَا تُمْنَعُ دَعْوَاهُ فِيهَا، فَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ لِيَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ، وَقولهُ (وَخَتَمَ) هُوَ أَمْرٌ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ إذَا كَتَبَ اسْمَهُ فِي الصَّكِّ جَعَلَ اسْمَهُ تَحْتَ رَصَاصٍ مَكْتُوبٍ وَوَضَعَ نَقْشَ خَاتَمِهِ كَيْ لَا يَطْرُقَهُ التَّبْدِيلُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي زَمَانِنَا.